lundi 13 février 2012

محمد خير : احترس من «عش النمل»

58
ما إن تكررت مواجهات محمد محمود، حتى تذكرت نظرية «عش النمل»، هذه النظرية الأمنية تقوم على فكرة بسيطة، مفادها أن النمل لو انتشر فى البيت، تحت الكراسى والموائد ووراء الخزائن وخلف الأحواض، فإن مطاردته صعبة جدا، أما لو وجدت عش النمل، فيمكن أن تقضى عليه بخطوة واحدة، فماذا لو لم يكن العش موجودا أو أنك لم تعثر عليه؟ بسيطة، اصنع العش، وانتظر النمل.
استخدم الأمريكان هذه النظرية ضد القاعدة والتنظيمات المتصلة بها والخلايا التابعة لها والمتأثرة بأفكارها، كانت تلك الخلايا والأفراد والجماعات موجودة فى معظم أنحاء العالم شرقا وغربا شمالا وجنوبا، وكانت المشكلة أنها جماعات غير مركزية وغير مرتبطة، وليس لها قيادات محددة، بل إن بعضها من الهواة، بدت تلك الجماعات للأمريكان كالنمل المزعج المبعثر فى كل مكان، فماذا فعلت؟ صنعت العش، وكان هذا العش أفغانستان. فعلى الرغم من أن الطيران الأمريكى قصف ودمّر كل الأهداف الممكنة فى أفغانستان منذ الأسبوع الأول، فقد قرر جنرالات البنتاجون أن يصنعوا عشا دائما فى أفغانستان ليجذبوا النمل (الجهاديون) إليه، وخلال السنوات العشر الماضية بدا الوجود الأمريكى فى أفغانستان مكلفا بشريا وماليا، لكنهم استطاعوا جذب خلايا القاعدة إلى هناك على مدار الوقت (لتجاهد ضد الأمريكان)، وتدريجيا ارتاحت مدن أوروبا وأمريكا، بل ومعظم العالم العربى وخلت تقريبا من وجود النمل (مقاتلو القاعدة).
إذن، ماذا تفعل لو أنك تواجه ثوارا ينتشرون فى كل مكان، وينتمون إلى كل الفئات، ويتواصلون مع جميع الطبقات؟ اصنع لهم «عش نمل»، واجذبهم إليه. وأنت تعرف الآن أن هذا العش هو وزارة الداخلية والمنطقة المحيطة بها.
من الأمور التى حيرت الناس فى أثناء أحداث محمد محمود (الأولى) فى نوفمبر، أن الشرطة كانت تجتاح الميدان وتسيطر عليه تماما، ثم تخليه خلال ربع أو نصف ساعة، فيتجمع الناس مجددا، فتعود إلى الهجوم عليهم ثم تنسحب، فيلاحقها المتظاهرون باتجاه محمد محمود، فتواجههم هناك، واستغرق الكر والفر خمسة أيام آنذاك، وكلفنا 46 شهيدا ومئات المصابين، وتكررت الأحداث بحذافيرها فى أحداث مجلس الوزراء، هجوم عنيف، انسحاب، ثم هجوم على المعتصمين، وتارة على المستشفى الميدانى، تارة لاختطاف البعض، وتارة لإصابة آخرين، ثم إطلاق نار وشهداء جدد، وانسحاب جديد، ثم هجوم على العمارات المطلة على الميدان وعلى وسائل الإعلام، وانسحاب، وهجوم آخر فى الفجر، انسحاب، ثم بناء سور جديد فى قصر العينى، بعد سور محمد محمود، وفى ما بعد أسوار جديدة.
والأسوار فرصة ممتازة لتنفيذ نظرية «عش النمل»، فالسور يصنع حالة من الأمان الوهمى، لكنه أمان لمطلق النار فقط، كما أنه ساتر يسمح بانتقال مندسين ومخبرين من جانب إلى آخر، فضلا عن أن السور يصلح مساحة حماسية لكتابة الشعارات والاختباء لرمى الحجارة والاستراحة أحيانا، إن هدف من يصنع «العش» أن يطيل المعركة فى نفس المكان لأطول أمد ممكن، والسور أداة ممتازة لذلك، ووجوده يوحى بأن المعركة مستمرة وطويلة.
لو لاحظت فإن الثوار حققوا نجاحا كبيرا فى الفترة التى انتشروا فيها من خلال حملتى «كاذبون» و«سلاسل الثورة»، لقد انتشروا فى كل مكان، فى الشوارع والميادين والحارات، عرضوا وجهة نظرهم للناس مباشرة وناقشوهم، لقد كان لذلك أكبر الأثر فى نجاح إحياء الثورة فى 25 يناير الماضى، وكانت «شجرة» المسيرات الهائلة التى أقاموها من مختلف أنحاء القاهرة وصولا إلى التحرير مذهلة فى ابتكاريتها وتنفيذها، لقد رآهم الناس مرة أخرى كما بدوا فى أيام الثورة الأولى: منظمين وحاشدين ومقنعين. بدلا من المشهد الذى تم تخريبه عمدا فى التحرير بنشر الباعة الجائلين والبلطجية والقمامة وفارضى الإتاوات والخطرين ومفتعلى المشاجرات.
هذه المسيرات المنظمة التى يصعب اختراقها، وهذا الوصول إلى الناس فى أحيائهم وتحت بيوتهم وأمام مقاهيهم هو الخطر الأكبر على أعداء الثورة بتنوعاتهم الأمنية والإعلامية والمالية، لذا كان لا بد من استعادة المشهد الأسبق بسرعة: اشتباكات ودخان وحجارة وحرائق وتحطم منشآت، ما يؤدى إلى مشهد إعلامى مرتبك وغير متعاطف، يسحب الضوء بعيدا عن مأساة بورسعيد، وحتى عن مجلس الشعب على علاته.
وتبقى الأهداف السابقة فى كفة، وفى الكفة الأخرى الهدف الأخطر، ألا وهو استنزاف الثوار لأكبر حد ممكن، وليس هناك مكان أفضل لذلك من المواجهات عند وزارة الداخلية، فهى تتيح استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، كما أنها تصبح تظاهرات بلا هدف واضح بعد اليوم الأول (إذ لا ينوى الثوار اقتحام الداخلية أصلا)، كما أنها -وهنا مربط الفرس- تقضى على طليعة الثوار، إذ مهما زاد عدد الثوار فإن جزءا محدودا منهم لديه خبرة المواجهة المباشرة والقدرة على الكر والفر، فضلا عن مهارات الحشد والاتصال والقيادة، وهؤلاء هم «حراس النمل» المطلوبون أحياء أو أمواتا.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire