vendredi 3 février 2012

ملائكة التحرير

155

أينما تُولُّوا وجوهكم ستجدون أبطالا صنعتهم الثورة، إنهم ملائكة التحرير، الذين قدموا تضحيات على مدار عام من الثورة، تضحيات وصلت إلى حدود الدم. نعم.. إنهم أطباء قدموا أرواحهم فداء لإنقاذ حياة المصابين، حيث كانوا يمارسون عملهم وسط طلقات الرصاص الحى، ورغم تعرضهم للاعتقالات والتهديدات فإنهم رفضوا ترك المستشفيات والمصابين، ببساطة لأنها رسالتهم وواجبهم المقدس. ليس هذا فحسب، بل إن بعضهم استكمل علاج المصابين على نفقته الخاصة، ولهذا فإنهم يستحقون اللقب بامتياز.. لقب ملائكة الرحمة.


يحيى صلاح.. حكيم عيون الثورة

«مواطن عادى.. يعمل طبيب عيون.. وباختصار مالوش فى السياسة»، هكذا تخبرنا البطاقة الشخصية الخاصة بالدكتور يحيى صلاح، أحد أشهر الأطباء الذين شاركوا فى علاج مصابى الثورة، وأشرف على ما يقرب من 150 مصابا، ممن فقدوا أعينهم خلال الأحداث.

الدكتور يحيى صلاح، أستاذ فى كلية طب قصر العينى، لم يكن له دخل بالعمل السياسى لا من قريب ولا من بعيد. كان يكتفى كغيره من المصريين بمشاهدة الأحداث ونقدها فى الغرف المغلقة، قبل أن تتغير حياته، وتنقلب رأسا على عقب، بعد مسيرة واحدة شارك فيها يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011، خرجت من منطقته فى طريقها إلى ميدان التحرير، قبل أن تنال كل صنوف العذاب والعنف، من قنابل غاز انهمرت فوق رؤوس المشاركين فيها كالمطر، مرورا بالاعتداء الهمجى عليهم بالهراوات والعصى من قبل قوات الأمن المركزى.

«ساعتها بس حسيت إن مصر هتتغير بالمسيرة، ومن يومها وأنا أداوم على نزول التحرير» كلمات يصف بها صلاح أجواء جمعة الغضب، وإحساسه بها. وبصفته طبيبا، ومن منطلق حسه الوطنى الذى تفجر داخله، تقدم إلى الصفوف الأولى لاستقبال المصابين ومحاولة إسعافهم وتقديم العلاج إليهم، مما جعله شاهدا على كثير من أحداثها ومؤرخا عن قرب لكثير من الإصابات وروايات أصحابها.

صلاح قال لـ«التحرير»، إنه عالج مصابين من كل شرائح المجتمع، بداية من الطبيب والمهندس مرورا، بالسائق والعامل والمصور، لافتا إلى أنه وجد فى هؤلاء المصابين حبا وانتماء لبلدهم لم ير له مثيلا فى كل دول العالم «أى بلد لازم تفخر إن عندها شباب زى ده مش تصفى عنيهم»، يعلق بأسى ومرارة. صلاح هو طبيب مالك مصطفى والمشرف على علاج أحمد حرارة، وفى هذا الخصوص يقول إنه لم يتأثر بشىء بقدر ما تأثر بحالة أحمد حرارة وبجروحه ووطنيته وتحمله الموقف بكل شجاعة، لافتا إلى أنه لن ينسى جملة قالها حرارة وحفرت حروفها فى وجدانه بعد أحداث محمد محمود وفقده عينه الثانية، عندما قال «أنا أفضل أن أعيش كفيفا فى بلد حر أفضل من أن أعيش مبصرا فى بلد منكسر».

جملة حرارة المؤثرة خطفت لب صلاح وجعلته يصر على ضرورة محاكمة كل الذين شاركوا فى تشويه وتصفية عيون الورد المصرى، ومن ثم شارك مع مجموعة من زملائه فى تأسيس جمعية «أطباء عيون الثورة»، لتكون شاهدة على الإصابات والجرم الذى اُرتُكب ضد شباب طاهر شريف ثار طلبا لحريته وكرامة بلاده.

يقول صلاح «فى الشباب دول عرفت أحلى ما فى مصر وكان لى الشرف أن أعالجهم، ومن حقهم علينا أن نساعدهم فى بناء حياتهم الجديدة»، قبل أن يضيف «الثورة أعادت إلينا انتماءنا الحقيقى لبلدنا».

محمود سليمان الطبيب المحامى

فى ممرات عنبر العيون، فى قصر العينى، أو فى مستشفاه الخاص، تراه يرتدى البالطو الأبيض، مارًّا بين الغرف والعنابر المختلفة، للاطمئنان على مرضاه من مصابى العيون، وفى عز اشتعال الأحداث تراه واقفا فى الصفوف الأولى لاستقبال المصابين، وتقديم المساعدة والعلاج لهم. إنه طبيب العيون المصرى، الدكتور محمود سليمان، أحد أكثر الأطباء الذين قاموا بعلاج المئات من الشباب، الذين فقدوا عيونهم.

طبيب العيون لم يكتف بمعالجة مرضاه، بقدر ما كان يقوم بتقديم الدعم المعنوى إليهم، وتوجيههم وتأهيلهم معنويا ونفسيا وإرشادهم إلى حقوقهم القانونية. أرشدهم إلى الجمعيات الحقوقية التى تساندهم فى الحصول عليها. يقول «أفخر بالعلاقة القوية التى تربطنى بغالبية المصابين.. لا بد أن أساعدهم وأقف إلى جوارهم فى إعادة بناء حياتهم مرة أخرى». ينفعل وهو يقول «حقوق هؤلاء الناس لن تضيع، والجرم الذى اُرتكب فى حقهم هو جرم فى حق الشعب المصرى كله».

انتماؤه الوطنى وإحساسه بالمسؤولية جعلاه يبادر بنقل المصابين إلى مستشفاه، وعلاجهم على نفقته الخاصة، مُمضيا يومه فى التنقل بين قصر العينى، والمستشفى الخاص، لكى يتمكن من علاج أكبر عدد من المصابين. إنه يرى نفسه ثائرا من نوع خاص،  ثائرا تحتِّم عليه ثوريته أن يكون فى استقبال المصابين ليعالجهم، بدلا من الاعتصام فى الميدان، يقول «كل واحد له دور يقوم به، ودورى هو معالجة المصابين، وهناك آخرون يكون واجبهم التظاهر وحماية الميدان».

لم يُعرف عنه أى انتماء سياسى، كان مواطنا مصريا متابعا جيدا للأحداث السياسية، مشمئزا وساخطا على الأوضاع، ولكن من الخارج، دون أن يُقحم نفسه، أو يشارك فى أحزاب كارتونية لا معنى لها، إلى أن جاءت اللحظة التى نزل فيها سليمان إلى الميدان، فى يوم 30 فبراير، بعد أحداث جمعة الغضب، والعنف الذى واجه به النظام الفاسد شبابا رائعا، نزل ليبحث عن حرية بلاده. شعر بأن المصريين سيفعلونها تلك المرة، سكنته روح الثورة. من يومها -يحكى سليمان- بات حريصا على المشاركة فى كل المليونيات، وتوصيل رسالته من أرض الميدان الطاهرة. الطبيب الثائر يؤكد، ونظرة التفاؤل تسيطر على صوته وتكسو وجهه، أن التاريخ لن يعود إلى الوراء مرة أخرى «الثورة لا تزال مستمرة، ونحن لن نصمت حتى تتحقق مطالبنا».

محمد عبد الحميد جراح التحرير

لم تسعفه خبرته الجراحية فى مداواة جراحه، وآهات قلبه، الحزن أصبح رفيقه، والألم حفر مجرى داخله. إنه يستعيد بأسى آهات كل مصاب، وهو يحاول مداواته وإنقاذه، أو كل شهيد وهو يقبّل رأسه ويودعه. هو المعروف بتميزه الطبى وقدرته على مداواة جراح مصابيه، إنه الجراح، محمد عبد الحميد، أو كما أطلق عليه الثوار «جراح الميدان».

ملاك الرحمة، الذى لا يتوقف عن قطع المسافات، فى صفوف المتظاهرين، لا تكاد تميزه بينهم، وهو يُسرع حاملا مصابا. يلهث محاولا إيصاله، قبل فوات الأوان، إلى أقرب سيارة إسعاف، أو متنقلا بين مستشفيات الميدان لتقديم المساعدة، والبحث عن الأدوات، والأدوية الطبية. ليال طويلة واصل العمل خلالها فى المستشفى الميدانى، دون كلل أو ملل.

جراح الميدان قاتل من أجل إنقاذ كل نقطة دم، يمكن أن يفقدها المصابون. كان يفعل ذلك، حتى، وهو يعلم أن الشخص الممدد أمامه يلفظ أنفاسه الأخيرة. كان يحاول منحه فُرصة أخرى للحياة. يستعيد حالة «كان مخه كله بره، وكنت عارف إنه هيموت، وركّبت له محاليل، وعملت له إسعافات، وشلته للإسعاف، اللى رفضت تاخده، بس صمّمت، وودّيته قصر العينى، ولكن للأسف كان القدر أقوى منى.. ببساطة مات».

ثائر الطب شاهد على كثير من أحداث الثورة منذ بدايتها، فمع انطلاقة شرارة 25 يناير خرج فى مسيرة كوبرى الجلاء، ومستشفى عمر مكرم، ليتظاهر فى الميدان ثلاثة أيام، ويشترك بعدها فى تجهيز المستشفى الميدانى، ليرى ويسمع ويشهد عن قرب الأحداث، ويرى المصريين كما لم يرهم من قبل، ويحكى عن أخلاقيات وبطولات سطرها المصريون بحروف من نور للعالم أجمع «فى موقعة الجمل خيطت جروح نفس الناس، مرة واتنين وتلاتة. ناس مصممين يكملوا، رغم إنهم عارفين كويس إن فيه عند وزارة الداخلية قناصة، وسهل جدا إنهم يموتوا، بس دول كانوا رايحين يقدّموا أرواحهم فداء الوطن». متأثرا يحكى عن طبيب رآه وهو ينظف دورات المياه «عمرى ما تخيّلت دكتور ينظف حمامات». يختصر عمره فى 18يوما عاشها فى جنة ثورة المصريين «أأمن وأشرف أماكن وأحلى أيام عمرى كلها 18يوم، جوه الميدان  كنت عايش مع ملايكة مش مع بشر، 18يوم ماعشتش زيهم، مهما حد وصف رقِىّ وتمدن ناس البلاد التانية».

أحمد حسين فدائى لدرجة طبيب

طبيبنا الثائر أحمد حسين، كان بجانب مصابى الثورة ومصابى أحداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء.. يوصى بعلاجهم فى مستشفيات وزارة الصحة الهزيلة، كما كان يساعد كل مصاب لاستخراج تقرير طبى يثبت حقه، واستكمال علاجه خارج المستشفيات الحكومية التى لا تقدم شيئا للمصابين، كما كان فى أحيان كثيرة يستكمل هو علاج عدد من المصابين، ليس انطلاقا من كونه عضوا فى مجلس نقابة الأطباء ولكن من نابع إنسانيته وإيمانه بالدور الذى قام به هؤلاء المصابون الذين ضحوا بمستقبلهم وفضلوا أن يعيشوا بإعاقتهم فى سبيل حرية من حولهم.

وبحسه الوطنى والإنسانى العالى، شعر حسين أن الشهيد لم يأخذ حقه ولم يتم القصاص ممن قتله فى ظل تمثيلية يقال عليها محاكمة القتلة.. شعر بالضعف أمام دموع أمهات الشهداء، كما شعر بالضعف حينما وجد الآلاف يتساقطون ويعيشون بعاهات رصاص العسكر يوما بعد يوم، بينما لا يأخذ أى منهم حقه لا فى تعويض أو محاكمة عادلة، ومن ثم كان قراره أن يحفظ بنفسه حقوق كل شهيد ومصاب، ففكر فى توثيق التقارير الطبية للمصابين وشهداء شارعى قصر العينى ومحمد محمود، كما قام بحصر أعداد تلك الإصابات والمرور على أصحابها فى المستشفيات وفى منازلهم، بصحبة طبيب شرعى بغرض توثيق الجرائم التى ارتكبت فى حقهم، وعليه يمكن تقديم ملف متكامل كدليل عن تلك الجرائم لمحاكمة العسكر والقتلة من النظام البائد.

حسين أقدم على تلك الخطوة، فى ظل الضغوط التى تمارس على الأطباء لتغيير التقارير الطبية، إضافة إلى رفض المستشفيات منح تقارير طبية مبدئية بالإصابات لأهالى المصابين.. الأمر الذى كلفه غاليا، ولم لا وهو يوثق جرائم العسكر والداخلية.

فقد تم اختطاف حسين وسحله فى ممر بات يعرف بين الثوار بممر الهلاك فى مجلس الشورى، حيث ذاق كل أنواع المهانة، وقال له جلادوه «مال أمك بتوثيق الإصابات خليك فى الأجور اللى بتنادى برفعها.. مال أمك بعلاج البلطجية».. قبل أن يهددوه بإيذاء أسرته إن لم يكف عن توثيق جرائم العسكر فى حق الثوار.

علامات التعذيب فى جسد الدكتور أحمد حسين، زادته إيمانا وقناعة بأن الثورة لا يمكن أن تستكمل أهدافها، فى ظل حكم العسكر، ورغم أن يديه اليسرى باتت عاجزة عن الحركة من شدة التعذيب والضرب، فإنه لا يزال مصرا على مساعدة المصابين وأهالى الشهداء للحصول على حقوقهم ومقاضاة المجلس العسكرى المدان بقتل ذويهم عمدا بالرصاص الحى، بينما لسان حاله يقول «مش هنبيع مش هنسلم.. يسقط يسقط حكم العسكر».

د.العشماوى نقيب «يناير»

ظل يشعر باقتراب الفرج، وإشراق غد جديد على مصر، تهلّ نسماته بالعدل والحرية، ولكنه لم يكن يتوقع أبدا أنه سيأتى بتلك السرعة، هو الطبيب الدكتور سعد عشماوى، الذى ظلمه نظام بائد فأنصفته الثورة. سُجن وحُوكم أكثر من مرة، وجاءت نسمات الثورة لتجعله نقيبا على أطباء القاهرة.

نقيب الأطباء مثُل مرّتين أمام المحكمة العسكرية، فى عامى 95، و99 بتهم خاوية، بعيدة قطعا عن الحقيقة، مثل انتمائه إلى التيارات الإسلامية، لمجرد أنه ذو لحية ويؤدى الفروض فى مواعيدها، إضافة إلى أنه صاحب نشاط خيرى. المحكمة لم تنصفه، وحكمت عليه بالحبس، لكن كل هذا لم يحجب عنه روح الأمل، ظلت تراوده، حتى من وراء القضبان. هكذا ناقش رسالته للدكتوراه، وهو بين جدران السجن. العشماوى يتألم، حتى الآن، وهو يسترجع تلك اللحظات، يقول «اتظلمنا واتبهدلنا كتير، ولكن كنا متحمّلين، لإننا عارفين إن الفرج هييجى».

الطبيب الثائر شارك فى يوم 28. نزل إلى مسجد الاستقامة، فى ميدان الجيزة، ليبدأ مسيرته مع ملايين المصريين، نحو الحرية والكرامة، رافعين راياتهم للتعبير عن غضبهم بسبب الظلم الذى تجرعوه على مدار ثلاثين عاما.

النقيب يقول إن الطب رسالة، والعمل النقابى رسالة، ولا فارق بينهما، ولهذا لم يُغيرْه الكرسى أو المنصب. ظل كما هو، وكما عرفه الجميع، ما استحسنه كثيرون. حتى البسطاء من زوار عيادته. العشماوى طبيب دفَعَته رسالته السامية إلى التطوّع والمشاركة فى علاج كثيرين من مصابى الثورة، حتى ولو اضطر إلى عمل جمعيات، من أجل ذلك. لم يكن العلاج المجانى آخر ما قدمه، فقد كان يعمل على تأهيل المتعافين، ومساعدتهم على بدء حياة جديدة.

أحمد عصمت شهيد تحت الطلب

الكل يطلب الشهادة ويتمناها فى قلبه، لكن هل رأيت أحدا ذات مرة يعلق لافتة على ظهر البالطو الأبيض، مكتوب عليها «شهيد تحت الطلب»؟.. نعم هناك طبيب فعل ذلك.. طبيب يعرفه كل ثوار التحرير، إنه الدكتور أحمد عصمت، الذى يقول لكل المعجبين بشجاعته مبتسما، إنه يعلم باستهداف الأطباء والعاملين فى المستشفى الميدانى لإرهابهم ومنعهم من مداواة مصابى وجرحى الميدان، ولكنه أبَى أن يرجع عن مواقفه، وأعلنها قوية فى وجه عملاء الشرطة وقناصة الداخلية، بأنه باق فى الميدان، حيث ظل يعمل فى المستشفى وينقل ويسعف الجرحى، بينما يعلق تلك اللافتة الشهيرة على ظهره، متمنيا أن تراه عيون القتلة ليقدم روحه فداء لوطنه، وفداء للثورة.

عصمت طبيب صيدلى لا يتردد فى أداء أى عمل يطلب منه لنُصرة الثوار، فهو يسهل توفير الأدوية لمستشفيات الميدان، كما يسهل عمليات تقديمها للمصابين، كما لم يتردد للحظة عندما وجد فائضا كبيرا فى الأدوية فى المستشفيات الميدانية، فى أن يسخِّر نفسه وعلمه لتصنيفها وجردها. وعلى مدار أكثر من شهرين لم يكلّ ولم يمل وظل يواصل الليل بالنهار ليحميها ويجهزها تحسبا لأى حالة طوارئ.

التحرير

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire