التجربة التركية .. عوامل النهوض
تمثل التجربة التركية في النهوض بالدولة والمجتمع أحد أهم نماذج النهوض في المنطقة بل والعالم الإسلامي بأكمله، فقد شهدت السنوات الثماني منذ بداية الألفية الجديدة طفرة اقتصادية واجتماعية وسياسية في الجمهورية التركية يقودها حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية.
هذا المشهد الذي أذهل الساسة والمحللين الاقتصادية والاجتماعيين تجلى في أبهى صوره باعتلاء هذا الحزب قمة العمل السياسي التركي بجماهيرية شعبية لم يسبق أن وصل إليها أي من الأحزاب التركية، وكذا بالنهضة الاقتصادية المتسارعة والتي حققت للمواطن التركي مزيدا من المميزات الحياتية التي تدفعه إلى التغيير على كل المستويات السياسية والاجتماعية وغيرها.
من هنا بحث الكثير من المحللين العرب والمسلمين عن العوامل التي أنتجت تلك النهضة المتميزة في ظرف زمني قياسي، هذا الى محاولة فك لغز الوصول الإسلامي إلى قمة هرم السلطة في كل تفرعاتها في دولة تعد أكثر الدول العلمانية تطرفا في تطبيق مبادئها، مع تجذير العمل المؤسسي الحارس لتلك المفاهيم والمبادئ، دستوريا وقضائيا وسياسيا وثقافيا وحتى عسكريا.
في هذا المقال نحاول استخلاص تلك العوامل والاسباب التي سجلها كثير من المحللين، لنضعها بين يدي القارئ الكريم محاولين لنساهم في الجهد المبذول في البحث للأمة عن مخارج تستطيع بها النهوض من واقعها المرير باتجاه غد مشرق بإذن الله، لاسيما أن النموذج التركي هو الأقرب إلى العالم العربي جغرافيا وثقافيا وتاريخيا.
عمل متواصل
إذا أخذنا في الاعتبار التأثير المتبادل لعالمي السياسة والاقتصاد، فيمكن القول أن عوامل الاقتصاد والسياسة كان كل منهما مدخلا إلى الآخر في النهضة التركية، فالنجاح الباهر للعمل الاقتصادي لم يكن بمنأى عن تأثير العمل السياسي الإسلامي المتواصل.
إذ على إثر بعض النجاحات السياسية لشخصيات وأحزاب ذات توجهات إسلامية من مثل "مندريس" و"أوزال" و"أربكان" – والذين عملوا لأكثر من نصف قرن من الزمان على العودة بتركيا إلى مكانتها دوليا وإقليما- تشكلت بيئة ثقافية جديدة بين رجال الأعمال الذين ساءهم سيطرة الجمعيات والشركات ذات الأصول اليهودية على اقتصاد الدولة التركية، وتحكمها في مفاصل السياسة في هذه البلاد.
حيث قامت جمعيات لرجال الأعمال تعمل على تنمية الاقتصاد والصناعة في تركيا بعيدا عن سيطرة المنظومة الاقتصادية اليهودية، وتكونت لديها توجهات لإعادة تركيا إلى ثقافتها الأصيلة والعمل على الخروج من شرنقة العلمانية المتطرفة في طغيانها على الدولة والمجتمع.
ومن جهة أخرى عملت المنظومة الاقتصادية الجديدة على الدفع بالقوى السياسية ذات التوجهات الإسلامية باتجاه السيطرة على مفاصل الحكم لكن دون الموجهة الحادة مع القوى العلمانية المسيطرة على عالم السياسة في كل تجلياتها. فقد وظفت القوة "الإسلامية" الجديدة –متمثلة في حزب العدالة والتنمية - نجاحاتها الاقتصادية للوصل إلى حكم البلاد. فكانت النتيجة المبهرة التي حققها العدالة والتنمية بالفوز بـ 360 مقعدا من أصل 550 في البرلمان التركي قبيل نهاية العام 2001.
كذلك لا يمكن للمرء أن يغفل الجهود الجبارة التي بذل رموز ذلك الحزب منذ منتصف التسعينات على مستوى العمل الخدمي الذي يحتك بالمجتمع على نطاق واسع، فقد نهض أوردغان باسطنبول حين كان رئيسا لبلديتها، وأسس فيها بنية تحتية وعمرانية مذهلة جعلته يكتسب شعبية واسعة بين الجماهير، وكذا فعل زملاؤه في الحزب حين تولوا مناصب مشابهة في المحافظات التركية المختلفة جعلتهم يفوزون بأغلب البلديات في الانتخابات المحلية.
التركيز على الاقتصاد
تأسيسا على ما ذكرناه في النقطة السابقة، نتبين أن توجه القيادة الجديدة نحو تنمية البلاد من باب الاقتصاد مع عدم اهمال بقية الجوانب. فمنذ تولي العدالة والتنمية زمام السلطة في البلاد سعت إلى النهوض بتركيا اقتصاديا حتى تصبح في مصاف الدول ذات الاقتصاد القوي على مستوى العالم.
وبالسياسة الحكيمة والجهد المتواصل استطاع حزب العدالة والتنمية ان يضع اقتصاد تركيا في المرتبة السادسة عشرة بين الدول ذات الاقتصاد الأقوى على مستوى العالم في غضون ثماني سنوات. كما ضاعفت دخل الفرد التركي ثلاث مرات ليتجاوز 10000 دولار سنويا.
وقد أوردت دراسة أعدت عن النهضة الاقتصادية التركية لمؤتمر العلاقات التركية اليمنية عددا من الانجازات الاقتصادية لحكومة العدالة والتنمية منذ تسلمها السلطة عام 2001 وحتى 2008 كالآتي:
1. احتلت تركيا المرتبة السادسة على المستوى الأوروبي في المجال الاقتصادي.
2. تضاعف مؤشر دخل الفرد في تركيا فقد كان في عام 2002م يقدر بمبلغ 3500$ دولار أمريكي لكنه من خلال السياسة الاقتصادية الحكيمة وبقيادة حزب العدالة والتنمية قفز دخل الفرد عام 2008م إلى 10500$ دولار أمريكي.
3. تضاعف حجم الإنتاج أربع مرات خلال ست سنوات؛ حيث بلغ حجم الانتاج في عام 2002م (180 مليار دولار) لكنه قفز في عام 2008م إلى 740 مليار دولار.
4. استطاعت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية أن تسجل نموا جعلها تحتل ثاني أكبر دولة في العالم بنمو مقداره 11.5% كما استطاعت أن تحافظ على متوسط نمو خلال الفترة من عام 2002م وحتى عام 2008م في حدود 6% وهذا معدل نمو رائع رغم حدوث الأزمة المالية العالمية التي بدأت تداعياتها منذ عام 2006م التي قادت إلى حالات هبوط حاد في نمو العديد من دول العالم الصناعي.
5. تظهر الخطط التنموية والاقتصادية لتركيا تطلعها إلى تحقيق صادرات تصل إلى 500 مليار دولار وكذلك إيرادات تصل أيضا إلى مقدار 500 مليار دولار، كما تخطط تركيا لتحتل موقع أحد الدول العشر الأولى اقتصاديا على مستوى العالم.
6. تحتل تركيا المركز الأول في أوروبا في مجال صناعة النسيج.
7. الوصول إلى المرتبة الثالثة في العالم في تصنيع أجهزة التلفاز، والثالثة في العالم في تصنيع الحافلات.
8. وصلت صناعة تركيا من السيارات إلى حد أن من بين كل ألف سيارة تصنع في العالم فإن 15 سيارة صنعت في تركيا.
9. تصاعد حجم التجارة الخارجية لتركيا لتبلغ نسبة نمو قاربت 37%.
10. تضاعفت أربع مرات صادرات تركيا من 36 مليار دولار عام 2002 لتصل عام 2008 إلى 132 مليار دولار.
والملفت في هذه الأمثلة على النجاحات الاقتصادية أن تركيا تستورد المواد الخام الأساسية اللازمة للصناعة، فكيف لو أنها امتلكت تلك المواد على أرضها؟!
التعليم ركيزة التنمية
إذا كان التعليم أساس أي نهضة فإن الدولة التركية في بداياتها اعتمدت التعليم كأداة لسلخ المجتمع التركي من ثقافته الإسلامية وتحويله إلى الثقافة الأوروبية البحتة. لكن مع محاولات الساسة ذوي التوجهات الإسلامية ابتداء من مندريس وانتهاء بأوردغان تحولت السياسة التعليمية إلى التركيز على التنمية العلمية مع فرض التعليم الديني كمادة إجبارية لتعيد للمجتمع ثقافته الأصيلة.
ويشكل التعليم الجامعي دعامة أساسية من دعائم النهضة التركية الحديثة، مرتكزا على كفاءة عالية في الأداء، وقناعة راسخة بأن التعليم يشكل حجر الأساس لمشروع النهوض بالأمة التركية، ويرافق ذلك إعلام قوي يركز جهوده على إقناع الناس بحتمية النهضة التعليمية لرفع مستوى المعيشة وتحسين مستوى ونوعية الحياة في تركيا.
وعلى هذا الأساس سعت الحكومات المتتالية – لاسيما حكومة العدالة والتنمية- إلى تعزيز حصة التعليم من الميزانية العامة للدولة لتصل إلى 15% . وقد وضعت سياسات طموحة لنهوض بقطاع التعليم الجامعي بحيث يسهم في تطوير البلد بنواحيها المختلفة، ومن تلك السياسات:
1. استقلالية الجامعات وعدم خضوعها للتغيرات الوزارية، ومن يضع الخطط وبرامج التعليم العالي هو المجلس الأعلى للجامعات، والوزارة وإدارة الجامعات هي جهات تنفيذية فقط. وهذا من شأنه تحقيق ثبات السياسات والخطط التعليمية، وأيضا تحقيق الشفافية والعلمية والوضوح والمتابعة والمحاسبة الدقيقة لمراحل التنفيذ، وإنشاء جهات يراقب بعضها بعض.
2. تتميز الجامعات التركية بالتمييز من حيث أسلوب وآليات إنشائها؛ فهم يطبقون مبدأ يطلقون عليه (الحلول المتزامنة المتعددة الخلاقة) فعند إنشاء جامعة جديدة يتم وضع سياسة وخطط لحل عدة مشكلات، وتحقيق عدة أهداف محلية وقومية وثقافية علمية.
فعلى الجامعة أن تكون معتمدة على ذاتها في توفير كل متطلباتها المادي والسلعية، كما عليها أن تفتح مجالات العمل أمام خريجيها بعد تخرجهم.. كما يتم اختيار موقع الجامعة في المناطق المتخلفة أو العشوائية أو التي يخطط لتنميتها والنهوض بها أو حتى في الصحراء لجذب العمران إلى جوارها، ويسبق بناءها إنشاء عدد من المصانع المتنوعة. هو ما يضمن نشاء مصانع جديدة تضمن فرص عمل لكثير من الأيدي العاملة، ويفتح الباب لإيجاد مجال حيوي لعمل الخريجين، وهذا هو معنى الحلول المتزامنة الخلاقة، يحل فيها مشكلات التخلف التعليمي والاقتصادي والبطالة والفقر، بحيث يتم علاجها بشكل تكاملي شمولي.
3. يفرض على أي جامعة تتأسس أن تقوم بعمل شراكة مع جامعة أوروبية أو أمريكية في كل مراحل التعليم العالي، على أن تكون الشراكة في نظم المقررات والأنشطة والمهارات والقدرات والامتحانات.
4. الاستفادة من الخبرات العلمية التركية المهاجرة أو العاملة في الخارج، في بناء الجامعات وإعداد برامج الجودة بها، وفي متابعة وتقويم العمل العلمي والتربوي والأكاديمي للجامعات.
5. وربما يعد اهم عامل في نجاح النموذج التركي في التعليم هو إسهام الوقف الخيري والهيئات والمؤسسات الخيرية في دعم العملية التعليمية، حيث تقوم ببناء المدارس وتوفير المنح الدراسية ، وتسهم في طباعة المنشورات العلمية، كما تقوم ببناء إسكانات الطلبة والإشراف عليها. كما أسس الوقف الخيري مدارس خاصة تقوم بتدريس اللغات الأجنبية وتشرف عليها. هذا إلى جانب دعم البحوث العلمية، ورجال العلم المشاركين بالأنشطة العلمية وتنظيم الندوات والمؤتمرات العلمية داخل وخارج تركيا للمساهمة في خلق بيئة علمية صحيحة.
السياسة الخارجية
إن النجاح الذي حققته تركيا على مختلف الصعد دعم جهودها السياسية كي تصبح دولة فاعلة على المستويين الدولي والإقليمي؛ ويعد احمد داود اوغلو وزير الخارجية الحالي مهندس العمل السياسي التركي الداخلي والخارجي ومنظره الفلسفي الأول. وينطلق في نجاح هذا المسعى هو النجاح في الداخل والعمل على توحيد مختلف قوى الشعب وتوفير الاستقرار والقوة الاقتصادية الدافعة للعمل السياسي، بحيث تكون تركيا دولة قوية ومستقرة في الداخل، ومتصالحة في كل محيطها في الخارج.
حيث عملت تركيا بسياساتها على حل مشكلاتها مع كل جيرانها حتى أوصلتها إلى درجة الصفر، الأمر الذي فتح لها الطريق لكي تنتقل من دول الجسر الهامشية في المنطقة ، وتصبح دولة مركزية مؤهلة للعب دور محوري في الساحتين الإقليمية والدولية.
وانطلاقا من الإيمان الذي يتحلى به قادة العدالة والتنمية بضرورة العودة إلى حضن الأمة الإسلامية، مع عدم الانغلاق على الآخر الأوروبي أو الأمريكي. وقد شهدت السنوات الأخيرة تبلور عدد من المواقف التركية المتميزة، تجاه عدد من القضايا والأحداث العربية التي أظهرت فاعلية كبيرة تساند كل هذه القضايا.
هذه المواقف والسياسات جعلت من تركيا رمزا للافتخار العربي والإسلامي الذي رأى فيها انحيازا الى همومهم وقضاياهم، وجعل من تركيا لاعبا رئيسيا في الإقليم جعل بعض المحللين يعتبرون المنطقة قد دخلت العصر التركي في المنطقة العربية.
يضاف إلى تلك السياسات والمواقف سياسات الانفتاح السياسي والاقتصادي على العالم العربي، حيث تصاعد حجم التبادل التجاري بين تركيا وعدد من الدول العربية، لاسيما مصر والخليج العربي، كما شهدت العلاقات السورية التركية انفتاحا كبيرا بفتح المعابر والحدود بدون تأشيرات وإنشاء مناطق التجارة الحرة معها ومع مصر وعدد آخر من الدول العربية، كما لعبت دورا كبيرا في الملف الإيراني، بما يحقق الهدف الذي سعت إليه أنقرة لتكون الدولة المحورية في المنطقة العربية.
جدلية العلمانية والإسلام
يشير البعض إلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي في الوصول إلى السلطة وتعامله مع الطبيعة العلمانية للدولة التركية، واحترامه لمبادئها كمسألة لا يمكن تجاوزها في ظل السيطرة المطلقة لحراس العلمانية كقوة لا يمكن تجاوزها، على أن هذه الرؤية هي أحد اسرار نجاح النهضة التركية الحديثة التي يقودها هذا الحزب.
لكن هذه الرؤية ظلت مثار جدل بين العلمانيين والإسلاميين، بين معتبر أنها تعد نصر للعلمانية وهزيمة ماحقة للإسلام السياسي. بينما ترى الحركات السياسية الإسلامية أنها تعد نظرة متقدمة للإسلام تقوم على العمل بروحه، دون النظرة الحرفية للنصوص.
بينما يرى آخرون أن التجربة التركية في صورة حزب العدالة والتنمية، بأنها ليست تجربة إسلامية من الأساس، بل إنها غارقة في العلمانية من رأسها حتى أخمص قدميها. ويحتج هؤلاء بنصوص وردت في وثيقة تعريف الحزب بنفسه، وهي تشير بوضوح إلى هويته العلمانية.
ويظل هذا الجدل دائرا، لكن رؤية العدالة والتنمية حققت نجاحات متتالية، حيث استطاع استصدار قوانين تتيح حرية لبس الحجاب، كما استطاع تحييد كثير من القوى العلمانية في كثير من السياسات والقوانين التي تتجاوز المبادئ العلمانية.
عوامل أخرى
هناك عاملان آخران لا نستطيع أن نتجاهل دورهما في نجاح النموذج التركي، الأول يتمثل في تطبيق النظام الديمقراطي، الذي ساعد على نمو دور المجتمع الأهلي وعلى إنضاج خبرات المشتغلين بالعمل السياسي، وأتاح فرصة إخضاع السلطة للحساب والتداول بناء على قرار الجماهير في الانتخابات العامة. وكان الالتزام بمبادئ الممارسة الديمقراطية وراء تقليص دور العسكر في القرار السياسي، الأمر الذي جعل إرادة الشعب هي المرجعية الأهم في صناعة ذلك القرار وحمايته.
أما العامل الآخر فهو وضوح الرؤية الإستراتيجية لدى النخبة الحاكمة. وهذا الوضوح لم يكن من نصيب الأهداف فحسب، وإنما انسحب على الوسائل أيضا.
وعلى كل الأحوال فإن التجربة التركية في النهوض بالدولة والمجتمع تستحق التأمل والدراسة، لاسيما أنها حققت الكثير من الإنجازات الباهرة في فترة قصيرة جدا. هذا إلى جانب النجاح الذي تحقق لأصحاب التوجه الإسلامي في بلد يعج بالمتناقضات الثقافية والسياسية والعسكرية، وكل ذلك يستحق ممن يطمحون إلى تحقيق النهضة المنشودة الاهتمام والاستفادة.
"حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"
تمثل التجربة التركية في النهوض بالدولة والمجتمع أحد أهم نماذج النهوض في المنطقة بل والعالم الإسلامي بأكمله، فقد شهدت السنوات الثماني منذ بداية الألفية الجديدة طفرة اقتصادية واجتماعية وسياسية في الجمهورية التركية يقودها حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية.
هذا المشهد الذي أذهل الساسة والمحللين الاقتصادية والاجتماعيين تجلى في أبهى صوره باعتلاء هذا الحزب قمة العمل السياسي التركي بجماهيرية شعبية لم يسبق أن وصل إليها أي من الأحزاب التركية، وكذا بالنهضة الاقتصادية المتسارعة والتي حققت للمواطن التركي مزيدا من المميزات الحياتية التي تدفعه إلى التغيير على كل المستويات السياسية والاجتماعية وغيرها.
من هنا بحث الكثير من المحللين العرب والمسلمين عن العوامل التي أنتجت تلك النهضة المتميزة في ظرف زمني قياسي، هذا الى محاولة فك لغز الوصول الإسلامي إلى قمة هرم السلطة في كل تفرعاتها في دولة تعد أكثر الدول العلمانية تطرفا في تطبيق مبادئها، مع تجذير العمل المؤسسي الحارس لتلك المفاهيم والمبادئ، دستوريا وقضائيا وسياسيا وثقافيا وحتى عسكريا.
في هذا المقال نحاول استخلاص تلك العوامل والاسباب التي سجلها كثير من المحللين، لنضعها بين يدي القارئ الكريم محاولين لنساهم في الجهد المبذول في البحث للأمة عن مخارج تستطيع بها النهوض من واقعها المرير باتجاه غد مشرق بإذن الله، لاسيما أن النموذج التركي هو الأقرب إلى العالم العربي جغرافيا وثقافيا وتاريخيا.
عمل متواصل
إذا أخذنا في الاعتبار التأثير المتبادل لعالمي السياسة والاقتصاد، فيمكن القول أن عوامل الاقتصاد والسياسة كان كل منهما مدخلا إلى الآخر في النهضة التركية، فالنجاح الباهر للعمل الاقتصادي لم يكن بمنأى عن تأثير العمل السياسي الإسلامي المتواصل.
إذ على إثر بعض النجاحات السياسية لشخصيات وأحزاب ذات توجهات إسلامية من مثل "مندريس" و"أوزال" و"أربكان" – والذين عملوا لأكثر من نصف قرن من الزمان على العودة بتركيا إلى مكانتها دوليا وإقليما- تشكلت بيئة ثقافية جديدة بين رجال الأعمال الذين ساءهم سيطرة الجمعيات والشركات ذات الأصول اليهودية على اقتصاد الدولة التركية، وتحكمها في مفاصل السياسة في هذه البلاد.
حيث قامت جمعيات لرجال الأعمال تعمل على تنمية الاقتصاد والصناعة في تركيا بعيدا عن سيطرة المنظومة الاقتصادية اليهودية، وتكونت لديها توجهات لإعادة تركيا إلى ثقافتها الأصيلة والعمل على الخروج من شرنقة العلمانية المتطرفة في طغيانها على الدولة والمجتمع.
ومن جهة أخرى عملت المنظومة الاقتصادية الجديدة على الدفع بالقوى السياسية ذات التوجهات الإسلامية باتجاه السيطرة على مفاصل الحكم لكن دون الموجهة الحادة مع القوى العلمانية المسيطرة على عالم السياسة في كل تجلياتها. فقد وظفت القوة "الإسلامية" الجديدة –متمثلة في حزب العدالة والتنمية - نجاحاتها الاقتصادية للوصل إلى حكم البلاد. فكانت النتيجة المبهرة التي حققها العدالة والتنمية بالفوز بـ 360 مقعدا من أصل 550 في البرلمان التركي قبيل نهاية العام 2001.
كذلك لا يمكن للمرء أن يغفل الجهود الجبارة التي بذل رموز ذلك الحزب منذ منتصف التسعينات على مستوى العمل الخدمي الذي يحتك بالمجتمع على نطاق واسع، فقد نهض أوردغان باسطنبول حين كان رئيسا لبلديتها، وأسس فيها بنية تحتية وعمرانية مذهلة جعلته يكتسب شعبية واسعة بين الجماهير، وكذا فعل زملاؤه في الحزب حين تولوا مناصب مشابهة في المحافظات التركية المختلفة جعلتهم يفوزون بأغلب البلديات في الانتخابات المحلية.
التركيز على الاقتصاد
تأسيسا على ما ذكرناه في النقطة السابقة، نتبين أن توجه القيادة الجديدة نحو تنمية البلاد من باب الاقتصاد مع عدم اهمال بقية الجوانب. فمنذ تولي العدالة والتنمية زمام السلطة في البلاد سعت إلى النهوض بتركيا اقتصاديا حتى تصبح في مصاف الدول ذات الاقتصاد القوي على مستوى العالم.
وبالسياسة الحكيمة والجهد المتواصل استطاع حزب العدالة والتنمية ان يضع اقتصاد تركيا في المرتبة السادسة عشرة بين الدول ذات الاقتصاد الأقوى على مستوى العالم في غضون ثماني سنوات. كما ضاعفت دخل الفرد التركي ثلاث مرات ليتجاوز 10000 دولار سنويا.
وقد أوردت دراسة أعدت عن النهضة الاقتصادية التركية لمؤتمر العلاقات التركية اليمنية عددا من الانجازات الاقتصادية لحكومة العدالة والتنمية منذ تسلمها السلطة عام 2001 وحتى 2008 كالآتي:
1. احتلت تركيا المرتبة السادسة على المستوى الأوروبي في المجال الاقتصادي.
2. تضاعف مؤشر دخل الفرد في تركيا فقد كان في عام 2002م يقدر بمبلغ 3500$ دولار أمريكي لكنه من خلال السياسة الاقتصادية الحكيمة وبقيادة حزب العدالة والتنمية قفز دخل الفرد عام 2008م إلى 10500$ دولار أمريكي.
3. تضاعف حجم الإنتاج أربع مرات خلال ست سنوات؛ حيث بلغ حجم الانتاج في عام 2002م (180 مليار دولار) لكنه قفز في عام 2008م إلى 740 مليار دولار.
4. استطاعت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية أن تسجل نموا جعلها تحتل ثاني أكبر دولة في العالم بنمو مقداره 11.5% كما استطاعت أن تحافظ على متوسط نمو خلال الفترة من عام 2002م وحتى عام 2008م في حدود 6% وهذا معدل نمو رائع رغم حدوث الأزمة المالية العالمية التي بدأت تداعياتها منذ عام 2006م التي قادت إلى حالات هبوط حاد في نمو العديد من دول العالم الصناعي.
5. تظهر الخطط التنموية والاقتصادية لتركيا تطلعها إلى تحقيق صادرات تصل إلى 500 مليار دولار وكذلك إيرادات تصل أيضا إلى مقدار 500 مليار دولار، كما تخطط تركيا لتحتل موقع أحد الدول العشر الأولى اقتصاديا على مستوى العالم.
6. تحتل تركيا المركز الأول في أوروبا في مجال صناعة النسيج.
7. الوصول إلى المرتبة الثالثة في العالم في تصنيع أجهزة التلفاز، والثالثة في العالم في تصنيع الحافلات.
8. وصلت صناعة تركيا من السيارات إلى حد أن من بين كل ألف سيارة تصنع في العالم فإن 15 سيارة صنعت في تركيا.
9. تصاعد حجم التجارة الخارجية لتركيا لتبلغ نسبة نمو قاربت 37%.
10. تضاعفت أربع مرات صادرات تركيا من 36 مليار دولار عام 2002 لتصل عام 2008 إلى 132 مليار دولار.
والملفت في هذه الأمثلة على النجاحات الاقتصادية أن تركيا تستورد المواد الخام الأساسية اللازمة للصناعة، فكيف لو أنها امتلكت تلك المواد على أرضها؟!
التعليم ركيزة التنمية
إذا كان التعليم أساس أي نهضة فإن الدولة التركية في بداياتها اعتمدت التعليم كأداة لسلخ المجتمع التركي من ثقافته الإسلامية وتحويله إلى الثقافة الأوروبية البحتة. لكن مع محاولات الساسة ذوي التوجهات الإسلامية ابتداء من مندريس وانتهاء بأوردغان تحولت السياسة التعليمية إلى التركيز على التنمية العلمية مع فرض التعليم الديني كمادة إجبارية لتعيد للمجتمع ثقافته الأصيلة.
ويشكل التعليم الجامعي دعامة أساسية من دعائم النهضة التركية الحديثة، مرتكزا على كفاءة عالية في الأداء، وقناعة راسخة بأن التعليم يشكل حجر الأساس لمشروع النهوض بالأمة التركية، ويرافق ذلك إعلام قوي يركز جهوده على إقناع الناس بحتمية النهضة التعليمية لرفع مستوى المعيشة وتحسين مستوى ونوعية الحياة في تركيا.
وعلى هذا الأساس سعت الحكومات المتتالية – لاسيما حكومة العدالة والتنمية- إلى تعزيز حصة التعليم من الميزانية العامة للدولة لتصل إلى 15% . وقد وضعت سياسات طموحة لنهوض بقطاع التعليم الجامعي بحيث يسهم في تطوير البلد بنواحيها المختلفة، ومن تلك السياسات:
1. استقلالية الجامعات وعدم خضوعها للتغيرات الوزارية، ومن يضع الخطط وبرامج التعليم العالي هو المجلس الأعلى للجامعات، والوزارة وإدارة الجامعات هي جهات تنفيذية فقط. وهذا من شأنه تحقيق ثبات السياسات والخطط التعليمية، وأيضا تحقيق الشفافية والعلمية والوضوح والمتابعة والمحاسبة الدقيقة لمراحل التنفيذ، وإنشاء جهات يراقب بعضها بعض.
2. تتميز الجامعات التركية بالتمييز من حيث أسلوب وآليات إنشائها؛ فهم يطبقون مبدأ يطلقون عليه (الحلول المتزامنة المتعددة الخلاقة) فعند إنشاء جامعة جديدة يتم وضع سياسة وخطط لحل عدة مشكلات، وتحقيق عدة أهداف محلية وقومية وثقافية علمية.
فعلى الجامعة أن تكون معتمدة على ذاتها في توفير كل متطلباتها المادي والسلعية، كما عليها أن تفتح مجالات العمل أمام خريجيها بعد تخرجهم.. كما يتم اختيار موقع الجامعة في المناطق المتخلفة أو العشوائية أو التي يخطط لتنميتها والنهوض بها أو حتى في الصحراء لجذب العمران إلى جوارها، ويسبق بناءها إنشاء عدد من المصانع المتنوعة. هو ما يضمن نشاء مصانع جديدة تضمن فرص عمل لكثير من الأيدي العاملة، ويفتح الباب لإيجاد مجال حيوي لعمل الخريجين، وهذا هو معنى الحلول المتزامنة الخلاقة، يحل فيها مشكلات التخلف التعليمي والاقتصادي والبطالة والفقر، بحيث يتم علاجها بشكل تكاملي شمولي.
3. يفرض على أي جامعة تتأسس أن تقوم بعمل شراكة مع جامعة أوروبية أو أمريكية في كل مراحل التعليم العالي، على أن تكون الشراكة في نظم المقررات والأنشطة والمهارات والقدرات والامتحانات.
4. الاستفادة من الخبرات العلمية التركية المهاجرة أو العاملة في الخارج، في بناء الجامعات وإعداد برامج الجودة بها، وفي متابعة وتقويم العمل العلمي والتربوي والأكاديمي للجامعات.
5. وربما يعد اهم عامل في نجاح النموذج التركي في التعليم هو إسهام الوقف الخيري والهيئات والمؤسسات الخيرية في دعم العملية التعليمية، حيث تقوم ببناء المدارس وتوفير المنح الدراسية ، وتسهم في طباعة المنشورات العلمية، كما تقوم ببناء إسكانات الطلبة والإشراف عليها. كما أسس الوقف الخيري مدارس خاصة تقوم بتدريس اللغات الأجنبية وتشرف عليها. هذا إلى جانب دعم البحوث العلمية، ورجال العلم المشاركين بالأنشطة العلمية وتنظيم الندوات والمؤتمرات العلمية داخل وخارج تركيا للمساهمة في خلق بيئة علمية صحيحة.
السياسة الخارجية
إن النجاح الذي حققته تركيا على مختلف الصعد دعم جهودها السياسية كي تصبح دولة فاعلة على المستويين الدولي والإقليمي؛ ويعد احمد داود اوغلو وزير الخارجية الحالي مهندس العمل السياسي التركي الداخلي والخارجي ومنظره الفلسفي الأول. وينطلق في نجاح هذا المسعى هو النجاح في الداخل والعمل على توحيد مختلف قوى الشعب وتوفير الاستقرار والقوة الاقتصادية الدافعة للعمل السياسي، بحيث تكون تركيا دولة قوية ومستقرة في الداخل، ومتصالحة في كل محيطها في الخارج.
حيث عملت تركيا بسياساتها على حل مشكلاتها مع كل جيرانها حتى أوصلتها إلى درجة الصفر، الأمر الذي فتح لها الطريق لكي تنتقل من دول الجسر الهامشية في المنطقة ، وتصبح دولة مركزية مؤهلة للعب دور محوري في الساحتين الإقليمية والدولية.
وانطلاقا من الإيمان الذي يتحلى به قادة العدالة والتنمية بضرورة العودة إلى حضن الأمة الإسلامية، مع عدم الانغلاق على الآخر الأوروبي أو الأمريكي. وقد شهدت السنوات الأخيرة تبلور عدد من المواقف التركية المتميزة، تجاه عدد من القضايا والأحداث العربية التي أظهرت فاعلية كبيرة تساند كل هذه القضايا.
هذه المواقف والسياسات جعلت من تركيا رمزا للافتخار العربي والإسلامي الذي رأى فيها انحيازا الى همومهم وقضاياهم، وجعل من تركيا لاعبا رئيسيا في الإقليم جعل بعض المحللين يعتبرون المنطقة قد دخلت العصر التركي في المنطقة العربية.
يضاف إلى تلك السياسات والمواقف سياسات الانفتاح السياسي والاقتصادي على العالم العربي، حيث تصاعد حجم التبادل التجاري بين تركيا وعدد من الدول العربية، لاسيما مصر والخليج العربي، كما شهدت العلاقات السورية التركية انفتاحا كبيرا بفتح المعابر والحدود بدون تأشيرات وإنشاء مناطق التجارة الحرة معها ومع مصر وعدد آخر من الدول العربية، كما لعبت دورا كبيرا في الملف الإيراني، بما يحقق الهدف الذي سعت إليه أنقرة لتكون الدولة المحورية في المنطقة العربية.
جدلية العلمانية والإسلام
يشير البعض إلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي في الوصول إلى السلطة وتعامله مع الطبيعة العلمانية للدولة التركية، واحترامه لمبادئها كمسألة لا يمكن تجاوزها في ظل السيطرة المطلقة لحراس العلمانية كقوة لا يمكن تجاوزها، على أن هذه الرؤية هي أحد اسرار نجاح النهضة التركية الحديثة التي يقودها هذا الحزب.
لكن هذه الرؤية ظلت مثار جدل بين العلمانيين والإسلاميين، بين معتبر أنها تعد نصر للعلمانية وهزيمة ماحقة للإسلام السياسي. بينما ترى الحركات السياسية الإسلامية أنها تعد نظرة متقدمة للإسلام تقوم على العمل بروحه، دون النظرة الحرفية للنصوص.
بينما يرى آخرون أن التجربة التركية في صورة حزب العدالة والتنمية، بأنها ليست تجربة إسلامية من الأساس، بل إنها غارقة في العلمانية من رأسها حتى أخمص قدميها. ويحتج هؤلاء بنصوص وردت في وثيقة تعريف الحزب بنفسه، وهي تشير بوضوح إلى هويته العلمانية.
ويظل هذا الجدل دائرا، لكن رؤية العدالة والتنمية حققت نجاحات متتالية، حيث استطاع استصدار قوانين تتيح حرية لبس الحجاب، كما استطاع تحييد كثير من القوى العلمانية في كثير من السياسات والقوانين التي تتجاوز المبادئ العلمانية.
عوامل أخرى
هناك عاملان آخران لا نستطيع أن نتجاهل دورهما في نجاح النموذج التركي، الأول يتمثل في تطبيق النظام الديمقراطي، الذي ساعد على نمو دور المجتمع الأهلي وعلى إنضاج خبرات المشتغلين بالعمل السياسي، وأتاح فرصة إخضاع السلطة للحساب والتداول بناء على قرار الجماهير في الانتخابات العامة. وكان الالتزام بمبادئ الممارسة الديمقراطية وراء تقليص دور العسكر في القرار السياسي، الأمر الذي جعل إرادة الشعب هي المرجعية الأهم في صناعة ذلك القرار وحمايته.
أما العامل الآخر فهو وضوح الرؤية الإستراتيجية لدى النخبة الحاكمة. وهذا الوضوح لم يكن من نصيب الأهداف فحسب، وإنما انسحب على الوسائل أيضا.
وعلى كل الأحوال فإن التجربة التركية في النهوض بالدولة والمجتمع تستحق التأمل والدراسة، لاسيما أنها حققت الكثير من الإنجازات الباهرة في فترة قصيرة جدا. هذا إلى جانب النجاح الذي تحقق لأصحاب التوجه الإسلامي في بلد يعج بالمتناقضات الثقافية والسياسية والعسكرية، وكل ذلك يستحق ممن يطمحون إلى تحقيق النهضة المنشودة الاهتمام والاستفادة.
"حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire