ولو أنه لم يمض على اندلاع الثورة أكثر من تسعة أشهر، إلا أنه يجب علينا أن نذكَّر أنفسنا وأن يذكَّر المجلس العسكرى نفسه على أى نحو جاء إلى الحكم.. على الفور ستقفز إلى الذاكرة صورة اللواء عمر سليمان «والراجل اللى واقف وراه طبعاً» وهو يلقى خطابه الشهير الذى أعلن فيه أن مبارك تخلى عن السلطة وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، وهو تكليف مخالف للدستور الذى كان قائماً فى ذلك الوقت، كما أنه سقط بسقوط مبارك..
حتى ولو كان المجلس يستند فى وجوده فى السلطة إلى الإعلان الدستورى الذى أصدره هو فى مارس، إلا أنه اكتسب الشرعية فى حقيقة الأمر من مصدر واحد ليس له ثان (من الثورة) أى من ميدان التحرير، من ميادين التحرير.
اليوم يتنكر المجلس للميدان.. ركب المجلسَ عفريتٌ اسمه الميدان، فراح أعضاؤه يقتنصون كل فرصة ليقللوا من شأنه ويعايروه بأنه لا يمثل الشعب، وأنه حتى لو كان رواده يصلون أحياناً إلى المليون ففى مصر كتلة صامتة تختلف معه فى الرأى، أعدادها بعشرات الملايين.. أعضاء المجلس يفوتهم أن الذى يقود الجماهير فى كل العصور، وفى كل البلدان، وفى كل المواقف دائماً ما يكون الفصيل النشط من الشعب الذى يتقدم الصفوف ويقدم التضحيات ثمناً للتغيير..
رأينا هذا منذ شهور قليلة إلى جوارنا فى سوريا، وفى ليبيا، وأيضاً فى تونس، حيث أشعل فرد واحد هو «محمد البوعزيزى» شرارة الثورة عندما أحرق نفسه احتجاجاً على الإهانة والظلم.. ورأيناه منذ فجر التاريخ حتى العشرين سنة الأخيرة عندما بدأ انهيار النظم الشيوعية فى أوروبا.. ورأيناه فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية مرات ومرات.. ورأيناه كذلك فى الولايات المتحدة ذاتها عندما خرج زعيم السود مارتن لوثر كينج فى مظاهرته الشهيرة عام 1963 ينادى «عندى حلم» فأسقط النظام العنصرى.. كم كان عدد المتظاهرين يومها؟.. كانوا 250 ألفاً.. وكم كان عدد سكان الولايات المتحدة؟.. لم يكن يزيد على مائتى مليون.. ومع ذلك حققت مظاهرة مارتن لوثر كينج «الحلم».
يتنكر المجلس للتاريخ، ويتنكر أيضاً للواقع.. يتنكرون للشرعية الثورية التى جاءت بهم إلى السلطة فى فبراير، ويتنكرون للقرارات المتتالية التى أصدروها بأنفسهم تلبية لنداء التحرير، وآخرها، منذ أسبوع، قرار قبول استقالة حكومة «شرف» التى لم تكن لتسقط إلا بسبب ضغوط ميادين التحرير، ولأول مرة نجدهم يثيرون البلبلة بطرحهم المتكرر أن التحرير فى واد والكتلة الصامتة للجماهير فى واد آخر، مفترضين، دون سند، أن الكتلة الصامتة فى صفهم هم وليست فى صف التحرير، بل إن واحداً من أعضاء المجلس خرج أمس يزعم أن 90٪ «بالضبط» من الشعب مع المجلس وليس مع التحرير.
المجلس العسكرى بذلك يقامر مقامرة غير محسوبة، ويلعب لعبة خطرة ستؤدى إلى انقسام البلد.. هذا ما رأيناه يوم الجمعة الماضى عندما تمزقت مصر، لا بين ميدان التحرير وميدان العباسية فحسب، لكن قسماً ثالثاً منها هو الإخوان المسلمون هربوا من المشهد المضطرم إلى الأزهر، حيث نظموا مظاهرة لقيطة لإنقاذ القدس فى الوقت الذى تحتاج فيه مصر ذاتها إلى الإنقاذ..
هذه هى الكارثة التى تشهدها مصر الآن: الانقسام الذى تجلى على شاشات التليفزيون جميعهاً مساء الجمعة، عندما انقسمت كل واحدة منها إلى نصفين، نصف يبث مباشراً من التحرير والنصف الآخر يبث من العباسية، نصف يعارض المجلس ونصف يؤيده، وهو أمر ينعكس على الجيش ذاته، الذى ظل على مر العصور بمنأى عن مستنقع السياسة، فإذا بيد الأطراف المتصارعة تطاله لأول مرة منذ قيام الثورة.
هناك أيضاً مغالطة مفضوحة هى أن النصفين متساويان، بل إن إحدى القنوات الفضائية قدرت أعداد المتظاهرين فى ميدان العباسية بـ700 ألف، أى ما يزيد على ثلثى المليون المتظاهرين فى التحرير، وهى مغالطة كشفها موقع «البديل الجديد» الإلكترونى عندما نشر صوراً من موقع جوجل، تم التقاطها من زاوية واحدة ومن ارتفاع واحد قدره 566 متراً للميدانين، تبين بوضوح أن مساحة ميدان التحرير تبلغ 20 ضعف العباسية، أى أنه إذا ما كان التحرير يسع مليوناً من المتظاهرين فإن ميدان العباسية لا يتسع لأكثر من 50 ألفاً، هذا إذا أسقطنا من الحساب الوزن المعنوى لكل من الحشدين، بالأخذ فى الاعتبار إلى أى مدى كان الاحتشاد طوعياً أم كان حشداً منظماً.
الدخول فى هذه المقارنات التى راج الحديث حولها فى اليومين الماضيين سوف يسقطنا فى فخ الانقسام، وهو الانقسام الذى أشعل فتيله، للأسف، الاقتراح الذى ورد فى خطاب المشير بأنه مستعد لإجراء استفتاء شعبى حول استمرار المجلس العسكرى فى إدارة شؤون البلاد من عدمه، كأنه لم يكفنا استفتاء «الدستور أولا الذى أجرى فى مارس، والذى فجر به المجلس أول بذور الانقسام».
مجرد طرح فكرة الاستفتاء الآن هو إيذان بانفجار الفوضى، أو على الأصح بتفجيرها.. طرح فكرة الاستفتاء يحمل تهديداً ضمنياً أن البلد سيحل به الخراب إذا ما تخلى المجلس العسكرى عن الحكم.. الاستفتاء يعنى أن المجلس ليست لديه نية لترك السلطة..
الاستفتاء غير شرعى، وغير دستورى، لا يملك المجلس إجراءه ولا يؤتمن عليه، إذ لا يمكن له أن يكون الخصم ويكون الحكم فى آن واحد.. وحتى لو تم إجراؤه باختلاق أى ذريعة فالسؤال المنطقى الذى يجب أن يكون محل التصويت ليس إذا ما كان الشعب يريد استمرار المجلس من عدمه، لكن إذا ما كان يريد انتقال الحكم إلى سلطة مدنية أم لا.
الاستفتاء أولاً وأخيراً هو ضربة قاصمة لوحدة الشعب، وتوريط للجيش، وليس للمجلس وحده، فى الصراع السياسى.. هذه هى الخطيئة الكبرى فى سلسلة الخطايا التى ارتكبها المجلس منذ تولى إدارة البلاد.. هو وحده، عندئذ، المسؤول الأول والأخير عن انقسام البلد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire