jeudi 30 juin 2011

القوة الناعمة .. فى النموذج التركى ..

50

استطاعت تركيا ان تلفت انظار العالم بتجربتها المميزة فى الديمقراطية الى الحد الذى جعلها مطروحة بقوة كنموذج يحتذى فى كثير من البلدان .
وكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أشكال النجاحات التي حققتها تركيا في العديد من المجالات، وخاصة بعد استلام حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في البلاد منذ عام 2002م. و استطاع أن يقدم نفسه بأنه حزب سياسي لكل الأتراك ، وتمكن ان يأخذ تركيا من اقتصاد متعثر هش إلي أحد الاقتصادات الأكبر في أوروبا بل والعالم كله .
وعليه فقد توجد بعض الدروس التي يمكن الإستفادة منها فى التجربة الديمقراطية التركية. و بطبيعة الحال فإن هذه الدروس و نتائجها تختلف بإختلاف الدول .، حيث لكل دولة خصوصيتها رغم وجود قواسم مشتركة أو التشابه بين تاريخ و ثقافة تركيا و خصائصها الإجتماعية و الإقتصادية و البشرية و بين دول المنطقة .
فيمكننا الوقوف عند تلك التجربة الديمقراطية التركية و نتائجها فى محاولة لاستخلاص الايجابيات واستبعاد السلبيات ..

 

الديمقراطية والنّـزاهة ..

لعل من أ سرارالنهضة التركية الراهنة كما يرى المحللون توفّر عاملين مهمين: الديمقراطية والنّـزاهة. فالتجربة الديمقراطية في تركيا مكنت الشعب التركي من الإدلاء بصوته ورأيه بصورة شفافة، وهذه النزاهة التي ميزت التجربة الديمقراطية تعد ضمان هام لكي تظل الثقة قائمة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
واستطاع حزب العدالة والتنمية التكيف مع الديمقراطية الليبرالية والعلمانية المعظمة لحقوق الإنسان وحريات الفرد والمجتمع والأقليات، والمحجمة لدور الأجهزة الأمنية والعسكرية في رسم السياسات وحكم البلاد.
ووضعت تركيا نصب عينيها التطورات الإقتصادية و السياسية و العلمية و الإجتماعية و الثقافية الجارية في أوروبا كمثال لبلوغ مستوى المدنية المعاصرة.

 

المحور السياسي ..

- الوضع السياسي الداخلي .

اتخذ الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" منذ وصوله للسلطة جملة من القرارات والممارسات الميدانية التي تهدف للتغيير وتحسين الوضع السياسي الداخلي، بفتح المجال واسعا نحو نقلة نوعية تطلق العنان لإنفتاح كافة طاقات المجتمع للمساهمة والمشاركة الفعالة في تغيير مختلف مناح الحياة اليومية، ولتحقيق مزيد من الحرية، العدالـة،
سيادة القانون، حقوق الإنسان، محاربة الفساد والتوزيع العادل للثروة...، في كنف الحياة السياسية التي تتيح الفرص المتساوية لكل التيارات للمنافسة الديمقراطية بينها.
وتقوم تجربة "حزب العدالة والتنمية" على "تمييز" الديني عن السياسي في الممارسة بحيث يفصل الأجندة الدينية الصريحة من برنامجه السياسي، ولكنه لا يفصل القيم الإسلامية (الحرية، العدالة، الشفافية، النزاهة، الاستقامة، الأخلاق،…الخ) المتأصلة فى هذا البرنامج في ممارسته أثناء انجاز هذا البرنامج.
والاستناد إلى برنامج سياسي متكامل هدفه أولا وأخيرا خدمة الناس والنهوض بالدولة بدون تسرّع في التنفيذ وببعد نظر ونفس طويل.
ويكتسب هذا النموذج قوته من خلال ما أثبته عن قدرته في مزج مفاهيم ظلّ كثيرون يشككون طويلا في إمكانية التقائها في مكوّن واحد. مفاهيم مثل "الديمقراطية والإسلام"، "الانفتاح والاستقلال"، "الإصلاح والاعتدال"، "التسامح والبراجماتية".
وفى ممارسات تعكس الروح السياسية الإيجابية التي يتمتع بها قادة الدولة ويعملون على تكريسها لدى مختلف فئات المجتمع. نضرب مثلا بتصريح لرئيس الوزراء في إحدى خطبه للبرلمان بأن المعارضة في تضائل ولا يجب أن تكون كذلك، لأن ضعفها ينسحب على ضعف أداء الحكومة.
وفى مثال آخر لافت ومعبر إعتذر رئيس الجمهورية "عبد الله جول" من مواطن على موقعه الإلكتروني (twitter) بسبب إزعاجه عند مرور موكبه بأحد الطرقات. وقد
تعكس هذه الممارسات الروح السياسية الإيجابية التي يتمتع بها قادة الدولة ويعملون على تكريسها لدى مختلف فئات المجتمع.

 

امثلة نوعية ..
لكي ندرك حجم التحول الذي حدث في تركيا يمكننا الحديث عن اسطنبول باعتبارها تجسد حجم ذلك التحول الذي حدث في البلاد.
يذكر أهالي اسطنبول أنه في عام 1993 كانت إدارة بلدية اسطنبول الكبرى بيد حزب الشعب الجمهوري وهو الحزب الذي أنشأه كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية
التركية الحديثة، في تلك الفترة كانت أكياس القمامة تملأ الشوارع، والروائح الكريهة تزكم الأنوف، وكان الماء لا يصل إلى الطوابق العليا من العمارات بسبب النقص
الحاصل فيها. ويذكر الساكنون على ضفاف خليج القرن الذهبي - وهو الخليج الفاصل بين منطقة تقسيم ومنطقة الفاتح- أن الروائح الكريهة المنطلقة من الخليج كانت
تعكر صفو حياتهم، وتهددهم بالأمراض في كل لحظة، وكانت الديون المستحقة على البلدية حينذاك تتجاوز الملياري دولار...

واستثمرت بلدية مدينة اسطنبول الكبرى أموالا طائلة فيما بين عامي 2004 و 2009 بلغت 22،6 مليار دولار في العديد من الأنشطة الاجتماعية والبنية التحتية. فعلى
سبيل المثال تم مد 28 كيلومترا لخطوط الترام والمترو وشق عشرة أنفاق وإضافة 3278 كلم لشبكة المجاري والصرف الصحي وألف كلم لشبكة المياه، وزيادة 55%
للمساحات الخضراء وجمع 15 مليون طن من النفايات يوميا وإسكان 30 ألف أسرة. وبالإضافة إلى ذلك فإن بلدية اسطنبول وخلال الفترة ذاتها أنشأت 18 مركزا ثقافيا
وقاعات للمؤتمرات و11 مكتبة عامة وقامت بترميم 81 أثرا تاريخيا. وهكذا عادت الحياة مرة ثانية إلى هذا المكان

 

المحور الصحى ..
وفي المجال الصحي أنشأت 32 مركزا للعناية الصحية و18 بيتا للمسنين و14 مركزا اجتماعيا. وتم بناء 120 مدرسة متنوعة ومشروع أنترنت مجاني بالأماكن العامة
وهي تقدم كل عام منحا دراسية لحوالي 150 ألف طالب من داخل تركيا ومن خارجها، وتولت مساعدة 170 ألف أسرة فقيرة وتنتج يوميا نحو مليوني رغيف من الخبز
بسعر رخيص جدا.

 

دور الاوقاف ..
وتلعب الأوقاف والجمعيات دورًا مهما في الحياة الاجتماعية والثقافية بتركيا،فلقد أصبحت هيئة الإغاثة والمساعدات الإنسانية (IHH) من أشهر الأوقاف في العالم بفضل ما تقدمه من مساعدات للمسلمين ولغير المسلمين على حد سـواء.
فقد شيدت عددا كبيرا من المدارس والمستشفيات والمساجد في أمكان كثيرة من العالم، وفي السودان فتحت مركزا طبيا كبيرا يجري فيه أطباء وممرضون من تركيا عمليات جراحية ويأتيه المرضى من دول أفريقية كثيرة.
وقامت كذلك بحفر المئات من الآبار في المناطق التي تعاني من شح الماء، كما أن هذه الهيئة فتحت لها فرعا في غزة عقب الحرب الإسرائيلية لعام 2009 على القطاع وتساهم اليوم بقدر كبير في رفع المعاناة عن أهالي غزة المحاصرين.
مثال آخر ..وهو جمعية "باب العالم" التي أنشئت قبل سنوات قليلة في اسطنبول وتهدف إلى مساعدة الطلاب الأجانب الذين يفدون إلى تركيا، وقد فاق عدد الجنسيات
المسجلة في الجمعية السبعين جنسية من أنحاء العالم، وتلعب دورا كبيرا في استقبال الطلاب المسلمين وغير المسلمين وتوجيههم وتقديم المساعدات اللازمة لهم من سكـن ومنح جامعية وتعليم للغات التركية واللغة العربية والإنكليزية مجانا ودورات في أنشطة مختلفة أخرى.
وهكذا فتحت ابوابها لطلاب العالم حتى يستفيدوا من وجودهم في تركيا أفضل إفادة، وبعد أن يغادر الطالب تركيا من الصعب أن ينسى أولئك الذين وقفوا إلى جانبه في أصعب الأوقات، فهم يصبحون سفراء لتركيا لدى بلدانهم ينقلون إليها صورة مشرقة عن تركيا.

 

الجانب العلمى ..
يشير المراقبون الى أن حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة التركية نشطة جدا، حيث تبلغ 3 أضعاف ما يترجم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية في العالم
العربي كله. ولا شك أن مجال الحرية المتوفر هناك له دور كبير في هذه الحركة بالإضافة الى العناية التي توليها الدولة للعلم وللبحث العلمي.
المحور القانونى ..
شهدت المنظومة القانونية تعديلات جوهرية عملت على الإنتقال من هيمنة القضاء العسكري بصلاحياته الموسعة إلى تكريس مبدأ إستقلال القضاء المدني بجناحيه
المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى الذي يعنى بتعيين القضاة.

 

السياسة الخارجية ..

أما على الصعيد الخارجي فقد نجحت تركيا في كسر الحواجز التي ظلت محبوسة داخلها لمدة عقود من الزمن .، فبعد أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قامت الحكومة التركية بمراجعة شاملة لعلاقاتها مع دول الجوار ودول العالم.
وتبنت سياسة خارجية عقلانية مدروسة تقوم على رؤية واضحة وعميقة لمعطيات المنطقة ومتغيّراتها وتأخذ بعين الاعتبار قدرات تركيا ومعطياتها الجيو-إستراتيجية والتزاماتها الخارجية بما يحقق مصالحها أولا وقبل كل شيء دون وجود عقدة التعاون مع القوى الكبرى على أساس من النديّة والاحترام والمتبادل.

وكان التحدي الكبير للحزب، هو ملف المفاوضات مع الاتحاد الاوربى والذى قطعت فيه شوطا كبيرا في إعادة التحريك الجاد للملف ، بالإتفاق على إنطلاق المفاوضات الرسمية للإنظمام للاتحاد الاوربى مع تنفيذ جملة كبيرة من الإصلاحات الجذرية التي تعمل على تغيير شكل تركيا بالكامل، تبدأ من تعديل الدستور بما يفسح المجال نحو تغير مدني يتيح المزيد من حقوق الإنسان .
كما سجلت تركيا إنفتاحا كبيرا على محيطها الإقليمي والعالم الخارجي بصفة عامة. تمثل في ربط علاقات متينة مع مختلف الدول العربية، الإسلامية، الأوربية، الأمريكية، الآسيوية والأفريقية. وقد تنام هذا الدور الجاد والفعال على المستوى الدولي إلى درجة التوسط في ملف إيران النووي الذي يعتبر معقدا جدا على مستوى
السياسية الدولية .
ومن أهم تلك التغييرات تحول سوريا من دولة كانت تعتبر عدوا، كادت الحرب تنشب بينهما في عهد حكومة أجاويد اليسارية، إلى دولة تربطها بها اتفاقيات تعاون استراتيجي في المجالات الاقتصادية والعسكرية، وتم إلغاء تأشيرة الدخول وتسهيل تنقل الأفراد بين البلدين.

ولم يغب عن السياسة التركية الرابط الإسلامي حيث تدخلت وبقوة في ملف حصار غزة، بتسيير "أسطول الحرية" نحو كسر الحصار سياسيا وتقديم الدعم والمساعدة للشعب الفلسطيني المحاصر.

 

المحور الإقتصادي ..

عمدت السياسات الإقتصادية على تحقيق العديد من المكاسب الهامة في غضون سنوات قليلة ، حيث وظفت كافة قدرات البلاد ومواردها الطبيعية والبشرية، والاعتماد على التصنيع والتصدير، والمزج بين الزراعي (اكتفاء ذاتي) والصناعي (ثاني اكبر منتج لصفائح الزجاج في العالم، وسادس اكبر منتج للاسمنت والألبسة الجاهزة على سبيل المثال) والخدماتي (دخل القطاع السياحي يزيد عن 20 مليار دولار) ومكافحة الفساد والرشاوى والتدهور المالي وزيادة القدرة الإنتاجية والتجارية ورفع الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 470 مليار دولار عام 2003 إلى أكثر من تريليون ومئة مليار عام 2010 ورفع مستوى دخل الفرد من حوالي 3300 دولار عام 2002 إلى حوالي 13300 ألف دولار 2010، والنهوض بالبلاد من حالة الانهيار الاقتصادي إلى المرتبة الـ15 عالميا خلال 9 سنوات فقط.
وإرتفع عدد المليارديرات من 6 أشخاص قبل 2002 إلى 26 شخص في سنة 2006م. وهذا ما بعث برسائل ثقة وإطمئنان لكل المتعاملين الإقتصاديين في العالم بأن مناخ الإستثمار جيد في تركيا.
هذه الديناميكية إنعكست بالإيجاب على الداخل التركي بإخراج البلاد من الأزمة الخانقة سنة 2001م، والإنتقال بها في فترة وجيزة للغاية إلى مستويات مقبولة من التقدم والإزدهار الإقتصادي اللافت للإنتباه، مثلما ذكر في تقرير منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية في أوربا لسنة 2007م معبرا على أن التعافي الذي شهدته تركيا كان ( مذهلا) بسبب المؤشرات الإيجابية للغاية على مستوى الإقتصاد بصفة عامة.
وتواصلت النجاحات والنتائج الإيجابية طيلة السنوات اللاحقة وبوتيرة متصاعدة حيث أشار تقرير توقعات الإستثمار العالمية (2009-2011) الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأنكتاد) بأن تركيا ضمن أفضل ثلاثين موقعا عالميا لجلب الإستثمار الأجنبي المباشر والتي قاربت 200 مليار دولار في سنة 2010م، التي كانت حافلة بالإنجازات الإيجابية المتمثلة في إحتلال الإقتصاد التركي للمرتبة 16 على المستوى العالمي، كما أن توقعات النمو تشير لتحقيق نسبة تقدر بـ 6.8% ما
يجعلها في المرتبة الأولى أوربيا والثالثة دوليا بعد الصين والهند، وهذا مؤشر كبير يدل على مدى تعافي الإقتصاد التركي في ظل الأزمة العالمية الحالية.

 

تصفير الخلافات ..
خريطة تركيا

ولعل من بين أفضل ما قدمه النموذج التركي للعالم كما يرى المحللون ،هو استخدام قوته الناعمة علي مستوي الديبلوماسية وعلي مستوي التواصل مع الشعوب العربية .
فعلي المستوي الديبلوماسي نرى تركيا تستخدم تعبيرا لافتا وهو " العلاقات الصافية " أي العلاقات القائمة علي تصفية المشاكل مع الجيران أو تصفير المشاكل أي جعلها
صفرا ، ورغم أن الجيش التركي يعد من أقوي جيوش المنطقة فإن ساسته يستبعدون الاشارة إلي القوة العسكرية كأحد أدوات نموذجهم .
وعلي مستوي العلاقات مع الشعوب فإن المدارس التركية تقدم نموذجا فريدا في جودة التعليم ، كما تستخدم الدراما التركية كأحد الأدوات التي تسوق لذلك النموذج .

وهكذا يرى المراقبون ان التجربة التركية رغم حداثة عهدها نحو"ثمانية سنوات من الديمقراطية" كانت ناجحة بكل المقاييس في تبني السياسة الديمقراطية كمنهج أصيل
نحو تغيير نابع من الإصلاحات الجوهرية والهامة فى شتى المستويات ..
واستطاعت تحويل مسار الدولة إلى مشروع كبير للإنجازات، وجعلها ورشة للبناء والتشييد في كل المجالات المتاحة للتطوير حيث سعى الحزب بكل طاقاته لتحقيق
الديمقراطية الحقيقية البعيدة عن هيمنة العسكرعلى الحياة السياسية في تركيا، والتي أدت إلى تعطيل مسيرة التنمية في شتى النواحي السياسية، الإقتصادية والإجتماعية...
وجعلتها في مؤخرة الدول الأوربية لحوالي عقدين من الزمن (1980 – 2002).
واعتمدت سياسة تهدف بالنهاية لتحقيق الأمن والإستقرار على مختلف الأصعدة ، وذلك بعد ان كانت تعج بصراعات داخلية في المجال السياسي والقانوني بين تيارين
متضادين أحداهما علماني يعتبر كواجهة سياسية للعسكريين ، والآخر يعتبر حزب مدني ذو توجه إسلامي مدعوم من طرف قطاع عريض من الشعب .
وقادت البلاد من هيمنة العلمانيين والنظام العسكري على الحياة السياسية، إلى بلد حديث مغاير يتمتع بالديمقراطية في ظل الحريات الجماعية والفردية، حقوق الإنسان، حقوق المرأة و حقوق العمال مما أهلها للعب دور إقليمي ودولي أكبر .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire