الجزء الأول: الانتصار في حرب المخابرات
«ألاستير كروك» و«مارك بيري»*
مقدمة
بعد خمس سنوات من هجمات 11 سبتمبر 2001، نشر الخبير العسكري الأمريكي «أنتوني كوردسمان» تقريراً عن الصراع بين إسرائيل وحزب الله بعنوان "دروس أولية من الحرب بين إسرائيل وحزب الله". وقد أثار هذا التقرير اهتماما كبيراً في البنتاجون حيث عكف على دراسته مخططو قيادة الأركان المشتركة وتناقلته أيدي الخبراء العسكريين في واشنطن. على أن «كوردسمان» لم يخف تواضع النتائج التي توصل إليها، فاعترف بحق بأن دراسته ليست فقط "أولية"، بل أقر أيضا بأنها لم تأخذ في الاعتبار الكيفية التي خاض بها حزب الله الحرب وقيم بها نتائجها. فهو يقول: "هذا التحليل.. قاصر، بحكم عدم القيام بزيارة مماثلة للبنان ولحزب الله".
وقد حققت دراسة «كوردسمان»، برغم القصور الذي قد نجده فيها، هدفين: قدمت أساساً لتفهم الحرب من وجهة النظر الإسرائيلية، وأثارت أسئلة عن الكيفية التي قاتل بها حزب الله ومدى كفاءته في القتال. وبوسعنا الآن، بعد مرور شهرين تقريباً من نهاية الحرب بين إسرائيل وحزب الله، أن نسد بعض الفراغات التي تركها «كوردسمان» دون أن يتطرق إليها.
الصورة التي نقدمها هنا قاصرة أيضاً. فمسئولو حزب الله لا يتحدثون عادة، لا في العلن ولا في وثائق
هم، عن الكيفية التي خاضوا بها الحرب، ولا يعلنون تفاصيل انتشار قواتهم ولا يناقشون إستراتيجيتهم المستقبلية. لكن بالرغم من هذا، فقد بدأت دروس الحرب من منظور حزب الله في التجلي واستنبط منها مخططو الاستراتيجيات الأمريكيون والإسرائيليون بعض الدروس الصغيرة. وقد بنينا نتائجنا على التقديرات الميدانية التي أجريت أثناء الحرب، وعلى حوارات مع خبراء عسكريين إسرائيليين وأمريكيين وأوربيين، وعلى أحاديث أجريناها مع لفيف من المسئولين في الشرق الأوسط المهتمين بشدة بنتائج الحرب.
وتتناقض النتيجة الكلية التي خلصنا إليها مع وجهة النظر الحالية التي يسوقها بعض المسئولين في البيت الأبيض وإسرائيل وخلاصتها "أن هجوم إسرائيل على لبنان أضر بشدة بقدرة حزب الله على شن حرب، وأن إسرائيل نجحت في تقويض قدرة حزب الله على الانتصار عسكريا في أي صراع مقبل، وأن قوات جيش الدفاع الإسرائيلي تمكنت، بمجرد أن أتمت انتشارها بأعداد كبيرة في جنوب لبنان، من التغلب على خصومها وإملاء تسوية لصالح المؤسسة السياسية الإسرائيلية".
العكس تماماً هو الصحيح. فمنذ بدء الصراع وحتى آخر عملياته، نجح قادة حزب الله في اختراق دوائر صنع القرار الاستراتيجي والتكتيكي في إسرائيل عبر مجموعة واسعة من العمليات الاستخباراتية والعسكرية والسياسية مما جعل حزب الله يحقق نصرا حاسما وكاملا في حربه مع إسرائيل.
حرب المخابرات
في أعقاب الحرب، اعترف الأمين العام للحزب «حسن نصر الله» بأن رد إسرائيل العسكري على خطف اثنين من جنودها وقتل ثمانية آخرين في الساعة 9:04 من صباح 12 يوليو كان مفاجئاً لقيادة حزب الله.
وقد جاء تصريح «نصر الله» ليضع حداً للروايات الصحفية عن تخطيط حزب الله عمداً لإشعال حرب مع إسرائيل وعن كون عملية الخطف جزءا من خطة متفق عليها بين حزب الله وإيران. فبالرغم من أن حزب الله ظل يعلن بوضوح على مدى سنوات عن نيته لخطف جنود إسرائيليين، كان هناك سبب وجيه لافتراض أنه لن يفعل ذلك في منتصف فصل الصيف حين تزور لبنان أعداد كبيرة من الأسر الشيعية الثرية المغتربة (وتصرف أموالها داخل الجماعة الشيعية) وفي وقت يتوقع فيه وفود أعداد كبيرة من عرب الخليج إلى البلاد.
وليس من الصحيح كذلك أن حزب الله، كما أوردت التقارير الصحفية في البداية، كان ينسق أنشطته مع حماس. فقد فاجأت عملية الاختطاف حماس. وبرغم دفاع قيادة حماس عن أفعال حزب الله فمن السهل، حين نسترجع الأحداث، أن نرى لماذا لم تكن حماس،على الأرجح، سعيدة بتلك الأفعال: فعلى مدار فترة الحرب شنت إسرائيل عمليات عسكرية متعددة ضد حماس في قطاع غزة قتلت فيها العشرات من المقاتلين وأعدادا كبيرة من المدنيين. ومرت هذه الهجمات، في الأغلب الأعم، دون اهتمام يذكر من الغرب مما أعاد إلى الأذهان القول المأثور: "حينما يشتعل الشرق الأوسط، يُنسى الفلسطينيون".
واقع الأمر أن عملية خطف الجنديين الإسرائيليين وقتل الثمانية الآخرين فاجأت قيادة حزب الله. وقد تم تنفيذ العملية فقط لأن التعليمات الدائمة المعطاة لوحدات حزب الله على الحدود الإسرائيلية تنص على ضرورة استغلال نقاط الضعف العسكرية الإسرائيلية. و كان «نصر الله» نفسه قد أشار منذ زمن إلى نية حزب الله لخطف جنود إسرائيليين بعدما تراجع رئيس الوزراء السابق «أرئيل شارون» عن الوفاء بالاتفاق على الإفراج عن كل الأسرى اللبنانيين –حيث لم يفرج عن ثلاثة منهم – ضمن آخر تبادل للأسرى بين حزب الله وإسرائيل.
كانت عملية الخطف، في الواقع، بالغة السهولة: خالف جنود إسرائيليون قرب الحدود الإجراءات السارية بشأن العمليات، فتركوا مركباتهم في مرمى مدفعية حزب الله بينما لم يكن لديهم اتصال بقيادتهم الأعلى وبينما كانوا محجوبين عن رؤية مواقع النيران التي تغطيهم.
نسجل هنا أنه بينما كانت أجهزة الإعلام الغربية تدأب على نقل معلومات مضللة عن الوقائع على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، أيدت جريدة هأرتس الإسرائيلية بقوة الرواية التالية: "أُرسلت على الفور قوة مكونة من دبابات وناقلات جند مدرعة إلى داخل لبنان في مطاردة محمومة. وحدث أثناء المطاردة في الساعة 11 صباحاً.. [أن] مرت دبابة ميركافا فوق قنبلة قوية تحتوي على ما يقدر ب 200 إلى 300 كجم من المتفجرات على بعد 70 متراً شمال السياج الحدودي. دُمرت الدبابة بشكل كامل تقريباً وقُتل على الفور كل أفراد طاقمها الأربعة. وشن جنود الجيش الإسرائيلي ً على مدار الساعات التالية قتالا شرسا ضد مسلحي حزب الله... خلال هذه المعركة قتل، حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، جندي آخر وأصيب جنديان بجروح طفيفة".
وكانت عملية الاختطاف منطلقا لسلسلة من أخطاء الجيش الإسرائيلي الفادحة التي تفاقمت من جرّاء ما أقدم عليه قادة عسكريون [إسرائيليون] من تصرفات تخرج عن القواعد الإجرائية العادية في منطقة الحدود. فأعضاء الدورية كانوا في أواخر أيام انتشارهم في الشمال وقد تخلوا عن حذرهم. وليس من الصحيح أن مقاتلي حزب الله قتلوا الإسرائيليين الثمانية أثناء خطفهم للجنديين، فقد مات الثمانية حينما أمر قائد حدودي من الجيش الإسرائيلي، بسبب حرجه من مخالفته للإجراءات السارية فيما يبدو، بإرسال مدرعتين لمطاردة الخاطفين.و مرت المدرعتان وسط شبكة من ألغام حزب الله المضادة للدبابات فدُمرتا. ومات جنود الجيش الإسرائيلي الثمانية أثناء هذه العملية أو نتيجة لأعمال القتال التي تلتها مباشرة.
كون وحدة تابعة للجيش الإسرائيلي قد قامت بالتجول قريباً جداً من الحدود دون ستار ناري، وتركت نفسها عرضة لهجوم حزب الله، دفع المسئولين الإسرائيليين إلى التساؤل عما إذا ما كانت تلك الوحدة قد تصرفت خارج إطار التسلسل القيادي. وهو ما جعل قادة كبار في الجيش الإسرائيلي يشكلون، فيما يبدو، لجنة تحقيق داخلية بعد هذه الواقعة مباشرة لتقصي حقائق الموضوع ولمراجعة إجراءات الجيش الإسرائيلي التي تحكم سلوك الوحدات على الحدود الشمالية لإسرائيل. و لم تنشر بعد النتائج التي توصلت إليها هذه اللجنة.
في غضون دقائق قليلة من عملية الخطف، كان مقاتلو حزب الله في جنوب لبنان، وبالرغم من مفاجأتهم بالرد الإسرائيلي، قد أصبحوا على أهبة الاستعداد كما جرى استنفار قادة ترسانات الأسلحة بواسطة رؤسائهم. كانت دفاعات حزب الله القوية والمدعمة ثمرة لعمل جاد استمر طيلة ستة أعوام بدأت بالانسحاب الإسرائيلي من المنطقة عام 2000، فتمت تقوية كثير من مخابئ القيادة الحصينة التي صممها وبناها مهندسو حزب الله بل وجرى تزويد البعض منها بمكيفات للهواء.
كان حفر ترسانات الأسلحة في باطن الأرض على مدى السنوات الماضية متوازيا مع برنامج للتضليل. حيث بني بعض المخابئ في العلن وغالبا ما كان ذلك تحت عيون طائرات التجسس الإسرائيلية أو على مرأى من مواطنين لبنانيين تربطهم علاقات وثيقة بإسرائيل. و كانت هذه المخابئ، باستثناء القليل منها،هياكل وهمية. في الوقت نفسه، مضى العمل في بناء مخابئ أخرى في مناطق محجوبة عن أعين السكان اللبنانيين. أما مخابئ القيادة ومخابئ ترسانات الأسلحة الأكثر أهمية فجرى حفرها في تلال لبنان الصخرية بعمق يصل إلى 40 متراً. و تم توزيع ما يقرب من 600 مخبأ مستقل للذخيرة والسلاح في مواقع إستراتيجية بمنطقة جنوب الليطاني.
ولدواعي الأمن، لم يكن هناك أي قائد يعرف أماكن كل المخابئ بمفرده. وكانت المخابئ المخصصة لكل وحدة من وحدات ميليشيا حزب الله لا تزيد عن ثلاثة فقط – مخبأ ذخيرة أساسي واثنين احتياطيين في حالة تدمير المخبأ الأساسي. كما خصصت لكل وحدة مقاتلة مواقع تجمع أساسية وأخرى احتياطية للتزود بالسلاح والاشتباك في مناطق قتالية محددة. و كان الالتزام بقواعد الأمن في تنظيم الجنود صارماً . فلم يكن لدى أي عضو في حزب الله معرفة بالهيكل الكامل للمخابئ الحصينة.
في الأيام الثلاثة الأولى للحرب، استهدف سلاح الجو الإسرائيلي مواقع ترسانات سلاح حزب الله ومواقع تجمع وحداته. وكنت القيادة الإسرائيلية قد حددت مواقع هذه المخابئ الحصينة من خلال مجموعة من تقارير المخابرات، واعتراض إشارات اتصالات حزب الله، وصور الأقمار الصناعية الاستطلاعية التي تم جمعها بالتعاون مع الجيش الأمريكي، وتحليل الصور التي التقطها سلاح الجو الإسرائيلي أثناء تحليقه فوق المنطقة والصور التي التقطتها الطائرات بدون طيار المنتشرة فوق الجنوب اللبناني، والأهم من ذلك كله من خلال شبكة من عناصر المخابرات البشرية الموثوق بها التي جندتها إسرائيل من خلال رجال مخابراتها الذين يعيشون في جنوب لبنان وضمنهم عدد كبير من الأجانب المسجلين في البلد كعاملين وافدين.
باء الهجوم الأول، الذي شن في ال 72 ساعة الأولى للحرب على نقاط تجمع وحدات حزب الله ومجمعات خنادقه الرئيسية، بالفشل. وفي الخامس عشر من يوليو استهدف سلاح الجو الإسرائيلي قيادة حزب الله في بيروت، وباء هذا الهجوم بدوره بالفشل. و لم يحدث أن قُتلت أي شخصية سياسية رفيعة من حزب الله في أي لحظة خلال الحرب برغم إصرار إسرائيل المستمر على أن القيادة العليا للمنظمة عانت من خسائر.
وكانت الخسائر التي ألحقها سلاح الجو الإسرائيلي بالموارد العسكرية لحزب الله في الأيام الثلاثة الأولى للقتال، بحسب مسئول أمريكي تابع الحرب عن كثب، "ربما لا تتجاوز 7% فقط" من عتاده العسكري. وأضاف المسئول نفسه أن الهجمات الجوية الإسرائيلية على قيادة حزب الله كانت، في رأيه، "عديمة الجدوى تماماً".
ولم تكن التقارير عن احتماء القيادات العليا لحزب الله بالسفارة الإيرانية في بيروت (التي لم تمس خلال الهجوم الجوي الإسرائيلي) صحيحة، وإن كان من غير المعروف يقينا أين اختبأت قيادة حزب الله. "حتى أنا لم أكن أعرف أين كنت" هكذا قال نصر الله زعيم حزب الله لأحد رفاقه. ورغم ذلك كله، فان خطط إسرائيل العسكرية لتدمير البنية التحتية للبنان لم تكن نتيجة لفشل سلاح الجو الإسرائيلي في النيل من قدرة حزب الله العسكرية في الأيام الأولى للحرب.
فقد دعت خطط القيادة العسكرية الإسرائيلية إلى قصف مبكر ومتواصل للطرق والموانئ الرئيسية بالإضافة إلى خططها لتدمير المقدرات العسكرية والسياسية لحزب الله. و لم تخف الحكومة الإسرائيلية نيتها لإضعاف ما يلقاه حزب الله من تأييد في الأوساط المسيحية والسنية والدرزية. و كانت هذه الفكرة، فكرة معاقبة لبنان لإيوائه لحزب الله وبالتالي تأليب الناس عليه، جزءا من خطة إسرائيل منذ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000.
وفي حين كان مسئولو الجيش الإسرائيلي يعلنون بثقة وعلى الملأ نجاحهم في هجومهم العسكري، أوصى قادتهم، في نهاية الأسبوع الأول من القصف، بأن يوافق رئيس الوزراء «إيهود أولمرت» على تكثيف الطلعات الجوية على مخابئ حزب الله في مناطق الأهداف الهامشية. وقد وافق «أولمرت» على هذه الهجمات وهو يعرف أن طلباً كهذا من ضباطه الكبار يعني بوضوح الاعتراف بأن تقديرهم المبدأي للدمار الذي لحق بحزب الله كان مبالغاً فيه.
وكان ما حدث في «قانا» نتيجة لموافقة «أولمرت» على "توسيع نطاق الأهداف". يتحدث خبير عسكري أمريكي، تابع الحرب عن قرب، عن قصف «قانا» فيقول: "الأمر بسيط. بعد فشل الحملة الأولى راجع واضعو الخطط في سلاح الجو الإسرائيلي ملفات الأهداف مرة أخرى ليتحققوا مما إذا كان قد فات عليهم أي هدف. وحينما قرروا أن ذلك لم يحدث، قام أحدهم، على الأرجح، وذهب للغرفة الأخرى وعاد بمجموعة من بطاقات الأهداف الجديدة التي تقع في مناطق ذات كثافة سكانية عالية وقال ’ها.. ما رأيكم في بطاقات الأهداف هذه؟‘ وهكذا قصفوها". ومعنى هذا أن قصف الأهداف التي تنال من مناطق الكثافة السكانية في جنوب لبنان كان نتيجة لفشل إسرائيل في الحرب وليس لنجاحها فيها.
تصاعد "توسيع الأهداف" على مدار الحرب. فبدأ سلاح الجو الإسرائيلي، بدافع من إحباطه الناتج من عجزه عن تحديد وتدمير مقدرات حزب الله العسكرية، في استهداف المدارس والمراكز الاجتماعية والمساجد معتقدا أن عجزه عن تحديد مواقع مخابئ حزب الله الحصينة وشل قدرتها إنما يرجع إلى استعداد حزب الله لإخفاء عتاده وقواته الرئيسية داخل مراكز مدنية.
كان من الحجج التي ساقها مسئولو سلاح الجو الإسرائيلي أيضاً أن قدرة حزب الله على مواصلة هجماته الصاروخية على إسرائيل إنما يعني أن إمداد المنظمة بالذخائر مستمر دون انقطاع، وأن قطع خطوط الإمداد المارة ببلدة «قانا»، الواقعة على مفترق تقاطع خمس طرق سريعة في قلب مناطق تواجد حزب الله، من شأنه أن يتيح لسلاح الجو الإسرائيلي الفرصة لإثبات أن الإمدادات التي تصل إلى حزب الله عبر هذه البلدة هي وحدها التي تمكنه من الاستمرار في القتال.
تظل الحقيقة، برغم ذلك، أن القيادة العليا للجيش الإسرائيلي كانت تعلم أن توسيع عدد الأهداف في لبنان لن يحقق، على الأرجح، سوى القليل في إضعاف قدرات حزب الله. وذلك أن حزب الله كان يواصل عملياته دون أي أمل في التزود بإمدادات جديدة معتمدا على مخابئ السلاح والصواريخ التي تمت تقويتها للصمود أمام الهجمات الإسرائيلية. و في أعقاب ما حدث في «قانا»، التي قتل فيها 28 مدنياً، وافقت إسرائيل على وقف إطلاق النار لمدة 48 ساعة.
قدم وقف إطلاق النار الدليل الأول على نجاح حزب الله في الصمود أمام الهجمات الجوية الإسرائيلية وعلى أنه كان يخطط لدفاع متواصل وطويل الأمد عن جنوب لبنان. وقد احترم القادة العسكريون لحزب الله وقف إطلاق النار بأمر من قيادتهم السياسية. فباستثناء حادثة فردية أو اثنتين ، لم يتم إطلاق أية صورايخ على إسرائيل في خلال فترة وقف إطلاق النار. وبينما تجاهل خبراء الاستخبارات في إسرائيل والغرب قدرة حزب الله على "وقف إطلاق النار" فعلياً، جاءت قدرته على فرض الانضباط على قادته الميدانيين لتشكل بوضوح صدمة غير مرغوب فيها للقيادة العليا للجيش الإسرائيلي، التي استشفت أن تجهيزات الاتصالات الخاصة بحزب الله قد نجت من الهجمة الجوية الإسرائيلية، وأن قيادة حزب الله كانت على اتصال مع القادة الميدانيين على الأرض، وأن هؤلاء القادة كانوا قادرين على الاحتفاظ بشبكة اتصالات محكمة برغم الممانعة الإسرائيلية.
كانت قدرة حزب الله على وقف إطلاق النار تعني، بكل بساطة، أن إسرائيل لم تنجح في الفصل بين مقاتلي حزب الله وهيكلهم القيادي (وهو ضرورة بالنسبة للجيوش الحديثة التي تحارب معارك معقدة تكنولوجياً). وكان أمام القيادة العليا للجيش الإسرائيلي استنتاج واحد – هو أن معلوماتها قبل الحرب عن إمكانات حزب الله العسكرية كانت، في أحسن التقديرات، شديدة القصور أو، في أسوأها، فادحة الخطأ.
ففي الحقيقة، طور مسئولو الاستخبارات في حزب الله على مدى سنتين قدرة كبيرة للتنصت على الإشارات اللاسلكية للخصم. فظل قادة حزب الله، على مدار الحرب، قادرين على التنبؤ بالزمان والمكان الذي ستهجم فيه المقاتلات والقاذفات الإسرائيلية. علاوة على ذلك، فقد كشف حزب الله عن هوية العناصر البشرية الأساسية التي تعمل لحساب الاستخبارات الإسرائيلية في لبنان. وبعد شهر من خطف جنود دورية الحدود الإسرائيلية والهجوم الإسرائيلي التالي اخترق مسئولو الاستخبارات اللبنانية شبكة تجسس إسرائيلية تعمل داخل البلاد.
قبض المسئولون في المخابرات اللبنانية (وحزب الله) على 16 جاسوسا إسرائيليا على الأقل في لبنان، وان كانوا قد فشلوا في القبض على زعيم الشبكة. فضلاً عن ذلك، نجح حزب الله، في فترة العامين ما بين العام 2004 وعشية الحرب، في "تسليم" عدد من العناصر المدنية اللبنانية التي تنقل معلومات عن مواقع المخابئ العسكرية الأساسية للحزب إلى ضباط الاستخبارات الإسرائيلية. وفي عدد قليل من الحالات الفائقة الأهمية استطاع مسئولو الاستخبارات الكبار في حزب الله في تسريب معلومات مغلوطة عن أهم مواقع المنظمة إلى إسرائيل. وكانت النتيجة أن ملفات الأهداف لدى إسرائيل حددت مواقع أساسية لحزب الله لم يكن لها، في الحقيقة، أي وجود.
وأخيراً، كان لقدرة حزب الله على اعتراض وقراءة التحركات الإسرائيلية أثر حاسم على الحرب البرية المقبلة. فقد أتقن مسئولو الاستخبارات في حزب الله القدرة على التجسس على الإشارات إلى درجة مكنتهم من اعتراض الاتصالات الأرضية بين القادة العسكريين الإسرائيليين. لقد استخفت إسرائيل، التي تعتمد الاتصالات بين قادتها العسكريين على مجموعة من التقنيات فائقة التطور"للقفز بين الترددات"، بقدرات حزب الله على إجادة تقنيات مضادة لهذه الإشارات. و سيكون لهذا تأثير جوهري على حسابات إسرائيل المعتمدة على أن المفاجأة وحدها كفيلة بأن تمنح جنودها هامشاً أكبر للنصر.
أصبح جلياً الآن أن المؤسسة السياسية الإسرائيلية أصابتها الصدمة من جرّاء فشل قواتها في تحقيق أهدافها الأولية في الحرب – ومن بينها تخريب عدد كبير من ترسانات أسلحة حزب الله وتدمير قدراته القيادية.
لكن المؤسسة السياسية الإسرائيلية لم تفعل شيئاً تقريباً للاستعداد لأسوأ الاحتمالات: فالاجتماع الأول للمجلس الأمني الإسرائيلي عشية اختطاف الجنود في 12 يوليو لم يدم أكثر من ثلاث ساعات. وبينما طلب «أولمرت» ومجلسه الأمني تفاصيل نقاط خطة الجيش الإسرائيلي للأيام الثلاثة الأولى للحرب، فإنهم فشلوا في صياغة أهداف سياسية واضحة في أعقاب الحرب أو في رسم إستراتيجية سياسية للخروج [من لبنان] في حال فشل الحملة العسكرية.
لقد انتهك «أولمرت» ومجلس الأمن الإسرائيلي المبدأ الأول للحرب باحتقارهم للعدو. ففي عدة سياقات كان أولمرت ووزراؤه أسرى لإيمان أعمى بفاعلية الردع الإسرائيلي. واعتبروا، شأنهم شأن الشعب الإسرائيلي، أي تشكيك في قدرات الجيش الإسرائيلي بمثابة تدنيس للمقدسات.
لقد كان فشل المخابرات الإسرائيلية أثناء الصراع كارثياً. وكان معنى هذا أن احتمال نجاح إسرائيل في تحقيق نصر حاسم على حزب الله، بعد فشل الحملة الجوية الإسرائيلية لتقويض مقدرات حزب الله في ال 72 ساعة الأولى للحرب، يقترب باطراد من العدم.
يقول خبير عسكري أمريكي:" لقد خسرت إسرائيل الحرب في الأيام الثلاثة الأولى" ويضيف: "إذا كنت تمتلك عنصر مفاجأة كهذا وقوة نيران من هذا النوع فعليك أن تنتصر وإلا ستبقى في الحرب لفترة طويلة".
وانتهت القيادة العليا للجيش الإسرائيلي إلى أن الخيار الوحيد المتبقي أمامها بعد فشل الحملة الجوية، هو غزو لبنان بقوات برية على أمل أن تستطيع تدمير إرادة الانتصار لدى حزب الله.
____________________________
*«ألاستير كروك» و«مارك بيري» هما مديرا «منتدى النزاعات». «كروك» مسئول سابق في المخابرات البريطانية (MI6) ومستشار شئون الشرق الأوسط السابق لـ«خافيير سولانا»، الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي. أما «بيري» فهو محلل وكاتب متخصص في شئون العسكرية والاستخباراتية وشئون السياسية الخارجية ومؤلف لعدة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
عنوان النص الأصلي باللغة الإنجليزية:
HOW HEZBOLLAH DEFEATED ISRAEL
PART 1: Winning the intelligence war
By Alastair Crooke and Mark Perry
(ترجمة: عمرو عبد العليم)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire