jeudi 25 août 2011

كيف هزم حزب الله إسرائيل (2)

الجزء الثاني: الانتصار في الحرب البرية
«ألاستير كروك» و«مارك بيري»*

دبابتا ميركافا إسرائيليتان مشتعلتان في جنوب لبنان
كان قرار إسرائيل بشن حرب برية - تحقق ما فشل سلاحها الجوي في تحقيقه - مشوبا بالتردد والعشوائية. فبينما كانت وحدات جيش الدفاع الإسرائيلي تشن هجمات خاطفة على جنوب لبنان أثناء الأسبوع الثاني من الحرب، لم تكن القيادة العسكرية الإسرائيلية قد حسمت قراراها بعد حول موعد ومواقع نشر وحداتها البرية - بل لم تكن قد حسمت بعد إذا ما كانت ستنشر هذه القوات أم لا تنشرها.
وكانت حيرة الجيش {الإسرائيلي}، حول زمان ومكان وجدوى نشر وحداته البرية الرئيسية، ترجع جزئياً إلى إدعاءات سلاح الجو بالنصر. فقد ظل سلاح الجو الإسرائيلي يدعي، يوما بعد يوم، أنه سينجح {في تحقيق النصر} من الجو في غضون يوم واحد، ثم يعود في اليوم التالي ليطلب يوما آخر. وانعكست هذه الحيرة على وسائل الإعلام الغربية بدورها، فكانت عاجزة عن القطع بموعد شن الهجوم البري أو إذا ما كان هذا الهجوم قد بدأ فعلا ًدون دراية منها.
واستمر كبار الضباط الإسرائيليين في التصريح لمعارفهم من الصحفيين بأن موعد الهجوم البري هو سر في طي الكتمان بينما كانوا هم أنفسهم، في الحقيقة، لا يدرون شيئا عن هذا الموعد. و كان التردد راجعاً أيضاً إلى تجربة وحدات الجيش الإسرائيلي الصغيرة التي كانت قد اخترقت الحدود. فقد أبلغت وحدات الجيش الإسرائيلي الخاصة، العاملة في جنوب لبنان، قادتها مبكراً ومنذ 18 يوليو أن وحدات حزب الله تخوض قتالاً شرساً للاحتفاظ بمواقعها على خط الحافة الأول المطل على

إسرائيل.
هنا اتخذ رئيس الوزراء «إيهود أولمرت» قراراً سياسياً باستخدام كل ما لدى الجيش الإسرائيلي من قوة لهزيمة حزب الله، في نفس الوقت الذي كان فيه كبار مساعديه يبدون استعداد إسرائيل للقبول بوقف لإطلاق النار ونشر قوة دولية. أصر «أولمرت» أن إسرائيل يجب ألا تفصح عن نواياها - فهي قد تقبل نشر قوة تابعة للأمم المتحدة ولكن فقط كخيار أخير.
قرر «أولمرت» أن إسرائيل ستقول، بدايةً، أنها ستقبل بقوة تابعة لحلف الأطلنطي (الناتو). وانسجاماً مع هذه الإستراتيجية جرى استدعاء قوات الاحتياط إلى الجبهة في 21 يوليو. وكان هذا الاستدعاء المفاجئ (كان المفترض أن يحاول الجيش الإسرائيلي أولا هزيمة حزب الله من الجو، فإن لم ينجح فباستخدام القوات النظامية دون استدعاء للاحتياطي) هو الذي جعل نشر الاحتياطي يبدأ بعجلة ودون تنسيق. (نكرر هنا مرة أخرى أن إسرائيل، على الأرجح، لم تكن تعتقد أنها ستضطر إلى استدعاء قوات الاحتياطي خلال الحرب وإلا كانت استدعتها قبل ذلك بكثير).
علاوة على ذلك، فقد فاجأ قرار استدعاء الاحتياطي ضباط احتياط كبار أساسيين، وهم عادةً أول من يتم إبلاغه بقرارات الاستدعاء الوشيكة. وكان التعامل مع استدعاء الاحتياطي فوضوياً وتجلى ذلك في تأخر "ذيل" الدعم اللوجيستي ما بين 24-48 ساعة بعد نشر قوات الاحتياطي.
وجاء قرار الاستدعاء في 21 يوليو ليعطي إشارة واضحة لرجال الإستراتيجية العسكرية في البنتاجون على أن الحرب الإسرائيلية لم تكن تتقدم بصورة جيدة. وهو ما يساعد أيضا في تفسير وصول قوات الاحتياط الإسرائيلية إلى الجبهة بدون المعدات الضرورية ودون خطة قتالية محكمة وبدون الذخائر اللازمة لمواصلة القتال. (ظلت إسرائيل تحاول بمشقة، على مدار الحرب، توفير دعم كاف لقواتها الاحتياطية: فالطعام والذخيرة، وحتى إمدادات المياه، كانت تصل بعد 24-48 ساعة كاملة من وصول أي من وحدات الاحتياط إلى مناطق الانتشار الشمالية المخصصة لها)
لمس المراقبون العسكريون آثار ذلك على الفور. فقال قائد عسكري أمريكي كبير سابق: "بدت القوات الإسرائيلية غير مستعدة ورخوة وفاقدة للروح المعنوية". وأضاف: "لم يكن هذا جيش الدفاع الإسرائيلي المزهو بنفسه الذي رأيناه في الحروب السابقة".
وتماشياً مع خطة «أولمرت» السياسية، أخذ هدف الجيش الإسرائيلي، المتمثل في القضاء الكامل على حزب الله، يتراجع بصورة ملحوظة. ففي اليوم التالي لاستدعاء الاحتياطي، كان العميد «أيدو نيهوشتان»، عضو قيادة الأركان في إسرائيل، يقول: "هناك خط واحد يقع بين أهدافنا العسكرية وأهدافنا السياسية"، ويضيف: "الهدف ليس بالضرورة تدمير كل صاروخ لدى حزب الله. ولكن ما علينا فعله هو الإطاحة بالمنطق العسكري لحزب الله. وأعتقد أن هذا الهدف بحاجة إلى ما هو أكثر من بضعة أيام".
كانت هذه، قطعاً، طريقة عجيبة لعرض إستراتيجية عسكرية: شن حرب من أجل "الإطاحة بالمنطق العسكري" للعدو. وكان لتصريح «نيهوشتان» أثر مخيف على قادة الجيش الإسرائيلي الميدانيين الذين حيرهم التساؤل عن ماهية أهداف الحرب على وجه التحديد. لكن بعض قادة الجيش الإسرائيلي الآخرين كانوا متفائلين، فبينما فشل سلاح الجو الإسرائيلي في إيقاف هجمات صواريخ حزب الله على المدن الإسرائيلية، فإن عدد الصورايخ الذي أطلق على إسرائيل ما بين 19-21 يوليو كان أقل من أي وقت آخر (كان عدد الصواريخ التي أُطلقت يوم 19 يوليو قليلا جدا، وربما لم يتعد العدد 40 صاروخاً في 20 يوليو و 50 صاروخا في 21 يوليو).
شهد يوم 22 يوليو أيضاً أول رد فعل عسكري للولايات المتحدة تجاه الحرب. فقد تلقى البيت الأبيض، في ساعة متأخرة من نهار 21 يوليو، طلباً من «أولمرت» والجيش الإسرائيلي للتزود بكميات كبيرة من الذخائر الموجهة بدقة - وهو دليل آخر ينم عن فشل سلاح الجو الإسرائيلي في مهمته للنيل من قدرات حزب الله العسكرية خلال الجولات الافتتاحية للحرب.
تمت الموافقة على الطلب بسرعة، وبدأ شحن الذخائر إلى إسرائيل في صباح يوم 22 يوليو. وقد أثارت هذه الشحنة استياء مسئولين كبار في البنتاجون حيث كانت تعني أن إسرائيل قد استنفذت معظم ذخيرتها في العشرة أيام الأولى للحرب - وهو إسراف هائل في استهداف المواقع أوحي بأن إسرائيل قد تخلت عن القصف التكتيكي لمقدرات حزب الله وأنها تتأهب للانقضاض على ما تبقى من بنية لبنان التحتية، وهذه إستراتيجية لم تنجح أثناء الحرب العالمية الثانية حينما دمرت الولايات المتحدة وبريطانيا 66 مركزاً من مراكز الكثافة السكانية الأساسية في ألمانيا دون أي تأثير يذكر سواء على معنويات ألمانيا أو قدراتها العسكرية.
ورغم أن التبرم في البنتاجون كان ضئيلا، فقد لاحظ أحد الضباط المتقاعدين أن شحنة الذخائر الأمريكية إلى إسرائيل تعيد إلى الذاكرة طلبا مشابها تقدمت به إسرائيل في عام 1973 - في ذروة حرب «يوم كيبور» {حرب أكتوبر}. قال هذا الضابط ساعتها: "هذا يعني شيئاً واحداً فقط هو أن ظهرهم للحائط".
وبالرغم من الشكوك العميقة التي كانت تساور كبار القادة العسكريين الأمريكيين في كفاءة الرد الإسرائيلي (وهي شكوك كانت، برغم عدم الإفصاح عنها علنا، عميقة ومؤثرة - بل امتدت لتصل إلى أعلى مستويات سلاح الجو الأمريكي) فإن هؤلاء القادة أبقوا أرائهم بعيداً عن الرأي العام. وكان السبب وجيها: فقد أدى انتقاد إسرائيل لطلبها شحنة أسلحة أثناء حرب 1973 إلى استقالة الجنرال «جورج براون»، رئيس قيادة الأركان المشتركة في ذلك الحين. و كان الذي أثار سخط «براون» حينذاك هو إرسال أسلحة وذخائر أمريكية إلى إسرائيل في وقت كان فيه القادة العسكريون الأمريكيون في ڤيتنام يحتجون على نقص الإمدادات في حربهم في جنوب شرق آسيا.
رئيس قيادة الأركان المشتركة الحالي «بيتر باس»، الذي بقي صامتاً بصورة ملحوظة أثناء الحرب بين إسرائيل وحزب الله، وعى درس التاريخ جيداً، "فأدى التحية العسكرية" {أي أطاع أوامر القيادة السياسية} والتزم الصمت. لكن قيادة الأركان المشتركة وكبار القادة العسكريين لم يكونوا المسئولين الأمريكيين الوحيدين الذين أقلقهم الأداء الإسرائيلي. فبينما كانت المؤن الأمريكية تحلق في طريقها إلى إسرائيل (عبر مطار بريستويك في اسكتلندا)، كان مسئولو الاستخبارات يجرون تقييما أوليا لحصيلة الأيام الأولى للحرب. وأشار واحد منهم إلى استمرار قناة «المنار» في بث برامجها من بيروت برغم الهجوم الجوي الإسرائيلي المتواصل وبرغم تدمير سلاح الجو الإسرائيلي لأبراج بث الشبكات التليفزيونية الرئيسية الأخرى بلبنان. (وسيبقى الأمر على هذه الحال على مدار الحرب، فقناة «المنار» لم تتوقف أبداً عن البث) فأي فعالية كانت إذن للحملة الجوية الإسرائيلية إذا كانت قد عجزت حتى عن القضاء على بث قناة تليفزيونية؟

دبابة ميركافا إسرائيلية محطمة في جنوب لبنان
كان الغرض من استدعاء الاحتياطي الإسرائيلي هو تعزيز القوات التي كانت تقاتل بالفعل في جنوب لبنان وزيادة ثقل الهجوم البري. وفي 22 يوليو، خاضت وحدات حزب الله من لواء «نصر» قتالا من شارع إلى شارع ضد الجيش الإسرائيلي في بلدة «مارون الراس». وبينما ادعى الجيش الإسرائيلي في نهاية اليوم الاستيلاء على البلدة، لم تكن البلدة قد سقطت. لم يتزحزح رجال حزب الله عن مواقعهم رغم ضراوة القتال. فكثير من جنود لواء «نصر» كانوا قد قضوا أياما عديدة في انتظار الهجوم الإسرائيلي، وبفضل قدرة حزب الله على اعتراض الاتصالات الجيش الإسرائيلي العسكرية وجد الجنود الإسرائيليون أنفسهم يناطحون وحدات تحتمي بمواقع محصنة جيداً.
ظلت سرايا الجيش الإسرائيلي عاجزة عن تطويق المدافعين حيث ووجهت بضربات مضادة من الناحية الغربية للمدينة. وقامت وحدات خاصة للمطاردة والقنص، يضم كل منها ثلاثة رجال، تابعة للواء «نصر» بتدمير عدة آليات مدرعة إسرائيلية أثناء القتال مستخدمة صواريخ خفيفة مضادة للدبابات يدوية الصنع. قال الملازم الثاني «أيلاي تالمور» وعلامات الإرهاق بادية عليه: "كنا نعرف أنهم سيفعلون هذا. فهم يقولون هذه أرضنا ونحن كنا سنفعل الشيء نفسه لو دخل أي أحد إلى بلدنا".
وبينما ظل الجيش الإسرائيلي يؤكد أن توغلاته ستبقى "محدودة المدى" على الرغم من استدعاء الآلاف من جنود الاحتياط، بدأت كتائب من الجيش الإسرائيلي في التشكل جنوب الحدود. أدلى «آڤي بازنر»، وهو متحدث رفيع المستوى باسم الحكومة الإسرائيلية، بتصريح قال فيه: "نحن لا نستعد لغزو لبنان". ووصف الجيش الإسرائيلي حينها «مارون الراس» بأنها "أول موطئ قدم" له في جنوب لبنان. وقال «بازنر»: إن تضافر القوات الجوية والمدفعية والقوات البرية سوف يدفع حزب الله للتقهقر من دون أن نصل إلى مرحلة يكون علينا فيها أن نغزو ونحتل".
هكذا تم التمييز بين "دفع" قوة إلى التراجع وبين غزو واحتلال بلدة، وكانت هذه إشارة واضحة أخرى استنتج منها الخبراء العسكريون الأمريكيون أن الجيش الإسرائيلي يستطيع الدخول إلى أي بلدة ولكنه لا يستطيع احتلالها. وقد شبّه ضابط أمريكي كبير، ملم بالتاريخ العسكري الأمريكي، هجمات الجيش الإسرائيلي الخاطفة في جنوب لبنان بالهجوم الدموي لـ «روبرت إي لي» على مواقع الاتحاد في «جيتيسبرج» ببنسلفانيا أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، إذ قال أحد مساعدي «لي» حينذاك: "ليس في الوصول إلى هناك أي مشكلة، إنما المشكلة هي في البقاء هناك".
وتؤكد تقارير قادة حزب الله العسكريين الصادرة بعد المعركة أن قوات الجيش الإسرائيلي لم تتمكن أبداً من التأمين الكامل للمنطقة الحدودية وأن «مارون الراس» لم تسقط بكاملها في أي وقت من الأوقات. ولم يشعر حزب الله أبداً بالحاجة إلى استدعاء احتياطيه كما فعلت إسرائيل. يقول خبير عسكري بالمنطقة: "قاتل حزب الله الحرب كلها بلواء واحد مكون من 3000 جندي فقط"، ويضيف: "لواء «نصر» خاض المعركة كلها دون أن يشعر حزب الله في أي لحظة بالحاجة إلى تعزيزه".
أبرزت تقارير لبنانية هذه النقطة. فقد اكتشف القادة العسكريون لحزب الله، لفرط دهشتهم، أن الجنود الإسرائيليين يفتقرون للنظام والانضباط. وحسب مراقبين لبنانيين كان لواء «جولاني» هو الوحدة الإسرائيلية الوحيدة التي كان أدائها يرقى إلى المقاييس. كان الجيش الإسرائيلي "خليطا متنافرا (a motley assortment)" حسب مسئول لديه معرفة عميقة بالتعبيرات الشعبية الأمريكية وأضاف: "لكن هذا ما يحدث عندما تُمضي أربعة عقود في إطلاق الأعيرة المطاطية على النساء والأطفال في الضفة الغربية وغزة".
انزعج قادة الجيش الإسرائيلي أيضاً من أداء قواتهم ولاحظوا الافتقار الصارخ إلى الانضباط حتى بين أفضل الجنود تدريباً. أما قوات الاحتياط فكانت أسوأ مما جعل قادة الجيش الإسرائيلي يترددون في إدخالها إلى المعركة.
ما إن جاء يوم 25 يوليو، حتى كانت إستراتيجية «أولمرت» - للتراجع عن الهدف المعلن بتدمير حزب الله - تُنَفَذ على قدم وساق. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي «عمير بيريتس» هو من حمل هذه الأنباء حيث قال يومئذ إن هدف إسرائيل الراهن هو إنشاء "حزام أمني" في جنوب لبنان. وترافقت كلماته هذه مع التهديد: "إذا لم تأتِ قوة متعددة الجنسيات للسيطرة على الحدود فسنستمر في السيطرة عليها بالسلاح ضد كل من يقترب من منطقة الحزام الأمني المحددة. وسيعرفون عندئذ أنهم سيتعرضون للأذى".
اختفى إذن، فجأةً، إدعاء إسرائيل بأنها ستدمر حزب الله. واختفى أيضاً إدعاؤها بأنها ستقبل فقط بقوات من الناتو لحفظ السلام على الحدود. في يوم 25 يوليو أيضا صرحت إسرائيل أن «أبو جعفر»، القائد في "القطاع الأوسط" لحزب الله على الحدود اللبنانية، قُتل "في تبادل لإطلاق النار" مع جنود إسرائيليين قرب قرية «مارون الراس» الحدودية - والتي لم تكن قد سقطت بعد. وكان ذلك التصريح عارياً من الصحة حيث أدلى «أبو جعفر» بأحاديث علنية بعد انتهاء الحرب.
في أعقاب ذلك، قبل أن ينقضي يوم 25 يوليو، وأثناء زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية «كونداليزا رايس» إلى القدس، بدأ الجيش الإسرائيلي في القتال لفتح الطريق إلى «بنت جبيل» مطلقاً عليها "عاصمة إرهاب حزب الله". و استمر القتال للسيطرة على «بنت جبيل» تسعة أيام، ولكنها بقيت حتى نهاية الحرب في أيدي حزب الله. بعد هذه الأيام التسعة كان الدمار قد حاق بالمدينة في حين استطاع مقاتلو حزب الله النجاة من غارات القصف الجوي والمدفعي المتكررة بالانسحاب إلى مخابئهم أثناء اشتداد القصف الجوي والمدفعي والظهور فقط كلما حاول جنود الجيش الإسرائيلي، في عمليات المتابعة التالية للقصف، السيطرة على المدينة.
تُذَكِّر تكتيكات حزب الله بتلك التي اتبعها جيش ڤيتنام الشمالي في الأيام الأولى لحرب ڤيتنام - حينما أمر قادة جيش ڤيتنام الشمالي جنودهم بضرورة "الاحتماء حتى ينتهي القصف بالقنابل" ثم التحرك لقتال الأمريكيين في وحدات صغيرة. يصف قائد عسكري ڤيتنامي هذه التكتيكات فيقول: "يجب أن تجذبوهم جذبا من أحزمتهم".
وفي 24 يوليو قامت إسرائيل، في إشارة أخرى للفشل المحدق بها في لبنان، بإطلاق الدفعة الأولى من آلاف القنابل العنقودية ضد ما أسمته "مواقع مدفعية حزب الله" في جنوب لبنان. القنابل العنقودية سلاح فعال رغم وحشيته، والبلدان التي تستخدمها ومنها كل أعضاء حلف شمال الأطلنطي (وكذلك روسيا والصين)، رفضت باستمرار الدخول في اتفاقية دولية تحرم استخدامها.
لكن أكثر الدول تحلياً بالمسئولية هي تلك التي تزود ذخائرها بصمامتين للتفجير لتقلل من معدل عدم انفجار"القنابل الصغيرة" بعد إطلاقها. وأثناء إدارة الرئيس الأميركي «بيل كلينتون» وافق وزير الدفاع «ويليام كوهين» على تزويد القنابل العنقودية الأمريكية بصمامتين للتفجير والاستغناء التدريجي عما يوجد في المخزون الأمريكي من ذخائر ذات "معدل عال في عدم الانفجار"، وكان الغرض من ذلك هو الحد من معدل عدم انفجار هذه الذخائر من 14% (البعض يقدره بأكثر من هذا) إلى أقل من 3% (وإن كان البعض يقدره بأقل من هذا).
وبالرغم من أن التحقيقات في استخدام إسرائيل لهذه الذخائر لم تكتمل بعد، فمن الواضح الآن أن الجيش الإسرائيلي استخدم ذخائر ذات صمامة تفجير واحدة. وتشير تقارير حديثة في الصحافة الإسرائيلية إلى أن ضباط المدفعية أغرقوا عشرات القرى اللبنانية بالقنابل العنقودية في أقرب ما يكون لتعريف الاستخدام "العشوائي" للقوة النارية.
ومن المرجح أن تكون الذخائر الإسرائيلية {من القنابل العنقودية} قد تم شراؤها من المخزون الأمريكي المتقادم الذي لم يزود بصمامتين، وهو ما يجعل الولايات المتحدة متواطئة في هذا الاستهداف العشوائي {للقرى اللبنانية}. يتسق هذا الاستنتاج مع التسلسل الزمني لإعادة إمداد إسرائيل بالذخائر في 22 يوليو. فمن المرجح جدا أن يكون الجيش الإسرائيلي قد تمكن [خلال يومين] من تفريغ شحنات هذه الذخائر ونشرها بالسرعة الكافية لخلق أزمة القنابل العنقودية في لبنان، التي بدأت منذ 24 يوليو ومازالت البلاد تعاني من بلائها حتى الآن.

جنود إسرائيليون مصابون في جنوب لبنان
وفي يوم 26 يوليو أقر المسئولون الإسرائيليون أن ال 24 ساعة الماضية في قتالهم من أجل «بنت جبيل» كانت بمثابة "أصعب يوم قتال في جنوب لبنان". وقرر قادة الجيش الإسرائيلي، بعد أن فشلوا في الاستيلاء على البلدة من حزب الله في الصباح، إرسال لواء النخبة «جولاني» للقتال هناك. وفي خلال ساعتين من بعد الظهيرة كان تسعة من جنود هذا اللواء قد قتلوا كما أصيب 22 منهم. وفي ساعة متأخرة عصر ذلك اليوم، أرسل الجيش الإسرائيلي لواء النخبة من قواته المظلية إلى «مارون الراس» حيث دخل القتال مع عناصر لواء «نصر» يومه الثالث.
وفي يوم 27 يوليو وافقت الحكومة الإسرائيلية، كرد فعل لفشل وحداتها في السيطرة على هاتين المدينتين، على استدعاء ثلاث فرق أخرى من الاحتياطي - أي 15000 جندي بالتمام والكمال. على أنه بحلول يوم 28 يوليو أصبح جلياً مدى فداحة فشل سلاح الجو الإسرائيلي في محاولاته لإيقاف هجمات حزب الله الصاروخية، حيث استخدم حزب الله في ذلك اليوم صاروخاً جديداً يدعى «خيبر 1» أصاب به مدينة «العفولة».
وفي يوم 28 يوليو تداعت أنباء الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي الذريع إلى الشعب الإسرائيلي. ففي ذلك اليوم سرّب مسئولون في الموساد معلومات تفيد أن حزب الله، في تقديرهم، لم يعان من خسائر ملموسة في قدراته العسكرية وأنه قد يكون باستطاعته الاستمرار في القتال لعدة شهور قادمة. لكن الجيش الإسرائيلي رفض هذه التقديرات وادعى أن حزب الله قد تضرر بشدة. وأظهر هذا بدايات الشقاق داخل فريق الاستخبارات الإسرائيلية.
وقد بدأ بعض الخبراء الأمريكيون أيضاً في التشكك في إستراتيجية إسرائيل وقدراتها. وقامت مؤسسة «بروكينجز» المحافظة بنشر تعليق كتبه «فيليب هـ. جوردون» (الذي ألقى بمسئولية الأزمة على حزب الله) قال فيه: "الموضوع ليس إن كان حزب الله مسئولاً عن الأزمة - فهو المسئول - وليس إذا كان من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها - فهذا حقها - ولكن الموضوع هو إذا ما كانت هذه الإستراتيجية بالتحديد [الحملة الجوية المتواصلة] ستنجح. لن تنجح. لن تجعل حزب الله عاجزاً لأنه، من المستحيل، ببساطة، أن تنجح حملة جوية في تدمير آلاف الصواريخ الصغيرة، المحمولة والمخبأة، والتي يسهل إعادة التزود بها."
عكس تعليق «جوردون» آراء عدد متزايد من القادة العسكريين الذين كانوا يتسابقون لنفض الغبار عن خططهم الجوية انتظاراً لصدور قرار من البيت الأبيض باستهداف المواقع النووية الإيرانية. يقول لنا خبير في شئون الشرق الأوسط على علاقة بمسئولين كبار في البنتاجون: "شاع فهمٌ خاطئ أن سلاح الجو الأمريكي كان مبتهجاً بالحرب الإسرائيلية على لبنان"، ويكمل: "لقد كانوا مذعورين. فهم يعرفون جيداً حدود قوتهم ويعرفون كيف يمكن إساءة استخدامها".
"لقد بدا لهم [أي لمسئولي سلاح الجو الأمريكي] أن إسرائيل ضربت بالقواعد عرض الحائط. فلم يكن ما فعلته إسرائيل جراحياً، ولا دقيقاً، وبالتأكيد لم يكن ذكياً. ليس لك أن تأمل في النصر لمجرد انك نجحت في تغطية بلد برداء من الحديد."
تُظهر الأرقام المجردة والقاسية للحرب مدى خطأ التفكير الذي استندت إليه حملة إسرائيل الجوية والبرية. فقد أخفى حزب الله ما يزيد على 18000 صاروخ في ترساناته قبل الحرب. وتم تحصين هذه المواقع ضد الغارات الجوية الإسرائيلية مما جعلها تنجو بسهولة من الحملة الجوية. وقد أجرى مسئولون في حزب الله قياساً للوقت الذي يمر ما بين لحظة إطلاق الصواريخ {على إسرائيل} واللحظة التي يتمكن فيها سلاح الجو الإسرائيلي من رصد مواقع الإطلاق وإرسال مقاتلات لتدمير منصات إطلاق الصواريخ المتحركة، فوجدوا أنه 90 ثانية. وقد تعلمت فرق إطلاق الصواريخ في حزب الله، عبر سنوات من التدريب الدؤوب، أن تخرج الصواريخ وتطلقها ثم تغطي منصاتها الصاروخية بأمان في أقل من 60 ثانية بما يجعل طائرات الجيش الإسرائيلي ومروحياته (التي تملك إسرائيل منها عددا أقل بكثير مما تدعيه) عاجزة عن وقف إطلاق صواريخ حزب الله المستمر على إسرائيل (يعلق أحد القادة العسكريين الأمريكيين فيقول: "ما يفصل بين إسرائيل وبين الكارثة الشاملة ثلاثة مروحيات تقريبا")
أطلق حزب الله ما يقرب من 4000 صاروخ على إسرائيل (الرقم الأكثر دقة، برغم عدم التيقن منه، هو 4180 صاروخ) ليقل مخزونه إلى 14000 صاروخ، وهو ما كان يكفي لمواصلة الحرب لثلاثة شهور أخرى على الأقل.
يضاف إلى ذلك، وهو الأمر الأعمق دلالة، أن مقاتلي حزب الله قد برهنوا على تفانيهم وانضباطهم، كما برهنوا، بقدرتهم على استخدام وسائل الاستخبارات لتحديد مواقع توغل قوات المشاة الإسرائيلية، على نديتهم لأفضل الوحدات المقاتلة الإسرائيلية. ففي بعض الحالات، هُزمت الوحدات الإسرائيلية في ساحة المعركة وأُجبرت على انسحابات مفاجئة أو اضطرت للاعتماد على الغطاء الجوي لإنقاذ عناصرها من خطر اكتساح حزب الله. وحتى قبيل انتهاء الحرب في يوم 9 أغسطس، أعلن الجيش الإسرائيلي عن مقتل 15 وإصابة 40 من جنود الاحتياط أثناء قتال في قرى «مرجعيون» و«الخيام» و«كلا». وهو معدل مذهل للخسائر بالنسبة إلى هذه المساحة البالغة الصغر من المناطق العمرانية.

دبابة ميركافا إسرائيلية محطمة في جنوب لبنان
دبابة ميركافا إسرائيلية محطمة في جنوب لبنان

كما استطاعت دفاعات حزب الله القوية أن تكلف المدرعات الإسرائيلية ثمناً باهظاً. فعندما وافقت إسرائيل أخيراً على وقف إطلاق النار وبدأت في انسحابها من منطقة الحدود كانت قد تركت خلفها أكثر من 40 آلية مدرعة، دُمرت كلها تقريباً باستخدام صواريخ «ساجر AT-3» المضادة للدروع و التي تم نشرها بحنكة. و«ساجر AT-3» هو الاسم الذي أطلقه حلف شمال الأطلنطي على الصواريخ الروسية الصنع من الجيل الثاني المسمى «9M14 ماليوتكا» - أو "الصغيرة" - والتي تحمل على عربات أو على ظهور المقاتلين وتُوجَّه بواسطة الأسلاك.
وقد أثبتت صواريخ «ساجر»، بمداها الذي يصل لثلاثة كيلومترات، نجاحها الكبير في إصابة الدبابات الإسرائيلية. الشيء الذي أصاب قائدي سلاح المدرعات الإسرائيلي بنوبات من الفزع، الجانب الأكبر منه بسبب أن صواريخ «ساجر» التي يستخدمها حزب الله هي من طراز قديم (تم تطويره ونشره في عام 1973) بينما الطراز الحديث منها أسهل في إخفائه ونشره، ويحمل رأساً حربياً أكبر. فإذا كان الجيش الإسرائيلي لم يستطع أن يحمي مدرعاته من صورايخ طراز 1973 "الجيل الثاني"، فلابد أن قواد الجيش الإسرائيلي يتساءلون الآن كيف يمكن لمدرعاتهم أن تحمي نفسها من طراز من الصواريخ أكثر حداثة و تطوراً و أشد فتكاً.
وقبيل تطبيق وقف إطلاق النار قررت المؤسسة السياسية الإسرائيلية القيام بإنزال مظليين إسرائيليين في مناطق رئيسية بمحاذاة نهر الليطاني. ويبدو أن هذا القرار أُتخذ لإقناع المجتمع الدولي أن قواعد الاشتباك للقوة التابعة للأمم المتحدة لابد وأن تمتد من الليطاني جنوباً. وما كان لإسرائيل أن تدعي لنفسها الحق في طلب كهذا إلا إذا كان بمقدورها القول، بمصداقية، أنها طهرت هذا الجزء من لبنان وحتى الليطاني {من قوات حزب الله}.
لتحقيق هذا الهدف، تم حمل عدد معتبر من القوات الإسرائيلية جواً إلى مناطق رئيسية جنوب الليطاني مباشرة. و كان يمكن لهذا القرار أن يؤدي لكارثة. فمعظم القوات الإسرائيلية التي حُملت جواً لهذه المناطق حاصرتها على الفور وحدات حزب الله وكان يمكن أن تسحقها على نحو حاسم لولا دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. وقد أثار هذا القرار السياسي غضب ضباط متقاعدين في الجيش الإسرائيلي واتهم أحدهم «أولمرت» بالزج بالجيش في ألاعيب سياسية ("spinning the military") - أي باستخدام الجيش لأغراض العلاقات العامة.
ربما كانت أعداد القتلى والجرحى هي أكثر الشواهد دلالة على الفشل العسكري الإسرائيلي. فإسرائيل تدعي الآن أنها قتلت حوالي 400-500 من مقاتلي حزب الله بينما كانت خسائرها أقل كثيراً. ولكن إجراء الحسابات بمزيد من الدقة يبين أن الخسائر في الأرواح في صفوف إسرائيل وحزب الله متساوية تقريباً. فمن المستحيل أن لا يقوم الشيعة (وحزب الله) بتشييع مشرف لشهدائهم، وإذا كان الأمر كذلك فالمسألة لا تعدو إحصاء عدد الجنازات. وقد كان عدد الجنازات التي أُقيمت لمقاتلي لمقاتلي حزب الله أقل من 180 جنازة وهو تقريباً نفس عدد القتلى على الجانب الإسرائيلي. يمكننا الآن أن ننقح العدد بالزيادة: فآخر معلوماتنا من لبنان تفيد أن العدد الدقيق لجنازات شهداء الشيعة في الجنوب كان 184 جنازة.
ولكن الانتصار الذي حققه حزب الله في القتال مع إسرائيل لا يمكن تقييمه إلا كنصر عسكري وسياسي حاسم أيا كان المقياس المستخدم، سواء كان عدد الصواريخ {التي أطلقت} أو العربات المدرعة {التي دمرت} أو أعداد الجرحى والقتلى {من الجانبين}. وحتى لو كان الأمر عكس ذلك (ومن الواضح أنه ليس كذلك) فإن مجمل الأثر الذي أسفرت عنه الحرب بين حزب الله وإسرائيل على مدار 34 يوماً في يوليو وأغسطس قد أحدث زلزالا سياسيا في المنطقة.
كانت الهزيمة العسكرية التي أنزلها حزب الله بإسرائيل حاسمة ولكن الهزيمة السياسية التي أنزلها بالولايات المتحدة - التي انحازت بلا جدال لإسرائيل أثناء الحرب ورفضت إيقافها - كانت هزيمة كارثية سيبقى لها أثرها الدائم على هيبة الولايات المتحدة في المنطقة.
____________________________
ألاستير كروك» و«مارك بيري» هما مديرا «منتدى النزاعات». «كروك» مسئول سابق في المخابرات البريطانية (MI6) ومستشار شئون الشرق الأوسط السابق لـ«خافيير سولانا»، الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي. أما «بيري» فهو محلل وكاتب متخصص في شئون العسكرية والاستخباراتية وشئون السياسية الخارجية ومؤلف لعدة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
عنوان النص الأصلي باللغة الإنجليزية:
HOW HEZBOLLAH DEFEATED ISRAEL
PART 2: Winning the ground war

By Alastair Crooke and Mark Perry
(ترجمة: عمرو عبد العليم)

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire