الجزء الثالث: الحرب السياسية
«ألاستير كروك» و«مارك بيري»*
عقب انتهاء الحرب بين إسرائيل وحزب الله، أُجري استطلاع للرأي في مصر طُلب فيه من قطاعٍ مستعرضٍ من مواطني ذلك البلد أن يذكروا أكثر قائدين سياسين يحظيان بإعجابهم. وقد وقع اختيار العدد الأكبر ممن استطلعت آراؤهم على «حسن نصر الله»، بينما حصل الرئيس الإيراني «محمود أحمدي نجاد» على المركز الثاني.
لم تكن نتائج هذا الاستطلاع للرأي تنم فقط عن نبذٍ واضح للرئيس المصري «حسني مبارك»، الذي أعلن منذ بداية الحرب آراءه المناوئة لحزب الله، بل كانت تنبذ أيضاً أولئك القادة السنيين- ومنهم «عبد الله» ملك السعودية و«عبد الله الثاني» ملك الأردن- الذين انتقدوا الجماعة الشيعية في محاولة ظاهرة لإبعاد أهل السنة عن تأييد إيران.
وفي أواخر أغسطس، قال دبلوماسي أمريكي يعمل في المنطقة: "مع نهاية الحرب كان هؤلاء يتهافتون للبحث عن مخرج للنجاة من المأزق. إن أحداً منهم لم يفتح فمه بكلمة في الآونة الأخيرة. هل سمعت أحداً منهم يتكلم؟".
لم يكن «مبارك» وملكا السعودية والأردن هم وحدهم الذين يبحثون عن مخرج من المأزق- بل كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة، ولو بحُكم الأوضاع المتزايدة القسوة لقواتها في العراق، في موقفٍ لا تُحسد عليه هي الأخرى. يؤكد دبلوماسي آخر بلهجة قاطعة: "إن ما يعنيه ذلك هو أن جميع الأبواب مغلقة أمامنا، في القاهرة وفي عمان وفي السعودية. إن قدرتنا على الوصول إليهم أصبحت معطلة. لا أحد يريد أن يرانا. لا أحد يرفع سماعة الهاتف للرد علينا."
بوسعنا، للنفاذ إلى أسباب هذا الانهيار، أن نجد مفتاحاً في مسلك وزيرة الخارجية الأمريكية «كوندوليزا رايس» التي أدى عجزها عن إقناع الرئيس «بوش» بوقف القتال، ووصفها للحرب بأنها "آلام المخاض" لشرق أوسط جديد، إلى الإجهاز على مصداقيتها في واقع الأمر.
وقد أعلنت الولايات المتحدة أنها ستحاول استعادة وضعها بدعم خطة سلام إسرائيلية فلسطينية يجري الإعلان عنها فيما بعد. ولكن استمرار أمريكا في تضييق الخناق على الحكومة الفلسطينية المشكلة ديموقراطياً حوّلَ ذلك الوعد إلى برنامج سياسي مقضي عليه بالموت قبل أن يولد. والسبب في ذلك واضح الآن أشد الوضوح. ففي أثناء الحرب، وفي معرض وصف الانفعالات التي تجتاح الساحة السياسية المصرية، قال أحد المسئولين الأوربيين في القاهرة: "إن القيادة السياسية المصرية تسير على جانب من الطريق بينما يسير الشعب المصري على الجانب الآخر".
إن الفشل الكارثي للجيش الإسرائيلي قد دعم دعاوى إيران الطامحة إلى قيادة العالم الإسلامي، وذلك من وجوه عديدة بالغة الأهمية.
فأولاً، أظهر انتصار حزب الله أن إسرائيل - وأية قوة عسكرية غربية حديثة ومتقدمة تكنولوجيا - يمكن أن تُهزم في قتال مفتوح إذا ما استُخدِمت التكتيكات العسكرية المناسبة وإذا ما أمكن الصمود في القتال لفترة ممتدة. لقد قدّم حزب الله نموذجاً لكيفية هزيمة جيش حديث. وهذه التكتيكات بسيطة: عليك أن تصمد حتى تمر الموجة الأولى للحملة الجوية الغربية، ثم تقوم بنشر قوات صاروخية تستهدف موارد عسكرية واقتصادية رئيسية للعدو، ثم تعود للصمود مرة أخرى حتى تمر حملة جوية ثانية وأشد خطورة، وأن تقوم بعد ذلك بإطالة أمد النزاع لفترة ممتدة. سيضطر العدو في لحظةٍ ما، كما حدث في هجوم إسرائيل على حزب الله، إلى الاستعانة بقوات برية كي تُنجز ما عجزت قواته الجوية عن تحقيقه. في هذه المرحلة الأخيرة والحرجة، يمكن لقوة متفانية، ذات تدريب جيد وقيادة جيدة، أن تُنزل ضربات موجعة بمؤسسة عسكرية حديثة وأن تهزمها.
وثانياً، أظهر انتصار حزب الله لشعوب العالم الإسلامي أن الإستراتيجية التي تنتهجها حكومات البلدان العربية والإسلامية المتحالفة مع الغرب - أي السياسة التي تقوم على استرضاء المصالح الغربية بأمل الحصول على جوائز سياسية ذات شأن ( الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، أسعار مجزية لصادرات الشرق الأوسط، و عدم التدخل في الهياكل السياسية، وانتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة) - لا يمكن أن تنجح لا في الحاضر ولا في المستقبل. لقد قدّم حزب الله نموذجاً جديداً ومختلفاً للإطاحة بهيمنة الولايات المتحدة وتقويض مكانتها في المنطقة. فإذا كان غزو العراق وانتصار حزب الله على إسرائيل هما أهم حدثين شهدتهما الفترة الأخيرة في الشرق الأوسط، فإن أهمية الحدث الثاني [أي انتصار حزب الله] أكبر بكثير. فالجماعات الأخرى المعادية لحزب الله، بل والجماعات المرتبطة بحركات المقاومة السنية الثورية التي تعتبر الشيعة طائفة "مارقة"، قد فقدت الكثير من مكانتها.
وثالثاً، فقد كان لانتصار حزب الله أثر ساحق على حلفاء أمريكا في المنطقة. لقد كان بوسع حزب الله، في تقدير مسئولي المخابرات الإسرائيلية، مواصلة الحرب لمدة ثلاثة شهور أخرى بعد انتهائها في منتصف أغسطس. وإذا كانت تقديرات حزب الله تؤكد هذه النتيجة التي توصلت إليها إسرائيل فان أحداً لا يستطيع أن يجزم بأنه كان بوسع حزب الله أو القيادة الإيرانية التنبؤ بالمسار الواجب اتخاذه بعد انتصار حزب الله. وبينما قامت المخابرات الأردنية بتطويق أية مظاهرات مناصرة لحزب الله، كانت المخابرات المصرية تحاول جاهدة رصد السخط الشعبي المتزايد إزاء الغارات الإسرائيلية على لبنان.
إن التأييد السافر لحزب الله على امتداد العالم العربي (ومن الغريب انه شمل حمل صوّر لـ«حسن نصر الله»، قائد حزب الله، وسط تجمعاتٍ مسيحيةٍ مؤيدةٍ له) قد وضع الحكامَ العرب الأقرب إلى الولايات المتحدة في موضع الحيطة والحذر، فقد كان أي تدهور جديد في مركزهم كفيلاً بإضعاف سيطرتهم على شعوبهم. ومن هنا، فمن المرجح جداً ألا يمنح «مبارك» وملكا السعودية والأردن تأييدهم لأي برنامج أمريكي لفرض ضغوط اقتصادية أو سياسية أو عسكرية على إيران. فشن حرب أخرى - ربما اتخذت صورة حملة عسكرية أمريكية على المواقع النووية الإيرانية - قد لا يؤدي إلى الإطاحة بحكومة طهران، لكنه سيؤدي على الأرجح إلى الإطاحة بحكومتي مصر والأردن وربما بحكومة السعودية أيضاً.
في لحظةٍ فارقةٍ من الصراع بين إسرائيل وحزب الله، وبينما كانت الحرب تدنو من نهايتها، أخذ قادة الحركات الإسلامية في عدد من البلدان يتساءلون عما إذا كان بوسعهم الاستمرار في السيطرة على جماهيرهم، أم أن عليهم أن يتركوا قياد العمل السياسي لأيدي القادة والثوريين في الشارع. إن الفكرة الأبرز الشائعة الآن في دوائر المخابرات بالولايات المتحدة تقول إن إسرائيل (وليس حزب الله) هي التي كانت تبحث، ابتداء من العاشر من أغسطس، عن مخرج من الحرب.
ورابعاً، فان انتصار حزب الله قد أضعف الحكومة الإسرائيلية على نحو خطير. ففي أعقاب الحرب التي خسرتها إسرائيل في عام 1973 قرر رئيس الوزراء «مناحم بيجين» أن يقبل السلام الذي عرضه عليه الرئيس المصري «أنور السادات». لكن التقدم الذي تحقق حينذاك كان، في واقع الأمر، متواضعاً. ذلك أن كلا الطرفين كان حليفاً للولايات المتحدة. ولن يحدث تقدم من هذا القبيل بين إسرائيل وحزب الله.
إن إسرائيل تعتقد أنها فقدت قدراتها الرادعة وأن عليها أن تستردها. وهناك من المسئولين الإسرائيليين العاملين في واشنطن من يؤكد أن السؤال المطروح الآن ليس "إذا" ما كانت إسرائيل ستقدم على شن الحرب مرة أخرى ولكنه "متى" ستقوم بذلك. على أنه من الصعب أن نحدد كيف تستطيع إسرائيل أن تفعل ذلك. فلكي تقاتل إسرائيل حزب الله وتنتصر عليه، لابد لها من إعادة تدريب جيشها وتجهيزه. سيكون على إسرائيل، كما فعلت الولايات المتحدة بعد قارعة فيتنام، أن تعيد هيكلة قيادتها العسكرية وبناء أجهزة مخابراتها. وهذا أمر يحتاج إلى سنوات وليس إلى شهور.
ربما عمدت إسرائيل في عملياتها المقبلة إلى نشر أسلحة أكبر ضد أهداف أوسع نطاقا. وفي ضوء أدائها في لبنان، فانه لا يمكن استبعاد أن يُواجه هذا الاستخدام لأسلحةٍ أكبر بردٍ أكثر قوة من الطرف الآخر. ومن المرجّح أن شن الولايات المتحدة لهجوم على المنشآت النووية الإيرانية سوف يُواجه بشن هجوم صاروخي إيراني على منشآت إسرائيل النووية وعلى المراكز السكانية الإسرائيلية. وليس بوسع أحد أن يتنبأ بالكيفية التي سترد بها إسرائيل على مثل هذا الهجوم، لكن من الواضح (في ضوء الموقف الذي اتخذه «بوش» في الحرب الأخيرة) أن الولايات المتحدة لن تفعل شيئا لوقفه. ومن المؤكد أن "البيت الزجاجي" لمنطقة الخليج الفارسي سوف يتحول عندئذ إلى شظايا بعد أن تستهدفه الصواريخ الإيرانية.
وخامساً، فان انتصار حزب الله يعني نهاية أي أمل في حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط. فحتى الشخصيات الإسرائيلية التي تُوصف عادة ب"التقدمية" قد قوّضت مركزها السياسي حين دعت بملء الصوت إلى استخدام المزيد من القوة والمزيد من القوات والمزيد من القنابل. وقد وبّخ الرئيس الفلسطيني «محمود عباس»، في اجتماعاته الخاصة مع حلفائه السياسيين، أولئك الذين أعربوا عن ابتهاجهم لانتصار حزب الله ونعتهم ب "مؤيدي حماس" و "أعداء إسرائيل". وموقف عباس أكثر هشاشة بكثير من موقف «مبارك» وملكي السعودية والأردن. فالفلسطينيون مستمرون في تأييد حماس، بينما يستمر هو في الاتفاق بخنوع مع «جورج بوش» الذي طلب منه،[أثناء لقائه به] على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، أن يضع حداً لجميع المحاولات الرامية لتشكيل حكومة وحدة وطنية مع مواطنيه الفلسطينيين.
وسادساً، فقد أسفر انتصار حزب الله عن نتيجة بالغة السوء هي إعماء القيادة السياسية الإسرائيلية عن حقيقة وضعها الجيو-ستراتيجي. ففي غمرة الحرب مع لبنان، تبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي «إيهود أولمرت» لغة «بوش» عن "الحرب على الإرهاب" مذكّراً مواطنيه بأن حزب الله جزء من "محور الشر". ولقي هذا الموقف دعماً من «بوش» الذي تعرض، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، خمس مرات لكلٍ من حماس وحزب الله في حين لم يذكر اسم منظمة القاعدة سوى مرة واحدة. وهكذا تضع الولايات المتحدة وإسرائيل جماعاتٍ إسلامية ترغب في المشاركة في العمليات السياسية في بلدانها في سلةٍ واحدةٍ مع أولئك التكفيريين والسلفيين الذين لا همّ لهم سوى تأجيج النار في المنطقة.
يُضاف إلى ذلك انه لم يعد بوسع إسرائيل الآن الاعتماد على أقوى مؤيديها في الولايات المتحدة، أي على شبكة المحافظين الجدد الذين تمثل إسرائيل في نظرهم واحة الاستقرار والديموقراطية في المنطقة. فعدم رضا أولئك المحافظين الجدد عن أداء إسرائيل كان واضحاً بما لا يكاد يقبل الشك. ومع أصدقاء من هذا النوع، من يرغب أن يكون له أعداء؟ معنى هذا أن الحرب الإسرائيلية في لبنان تعبّر بدقة عن رأي الخبراء الذين اعتبروا الحرب بين إسرائيل وحزب الله حرباً بالوكالة. يقول زميلنا «جف ارونسن»: "لو كان الأمر بيد الولايات المتحدة وحدها لظلت إسرائيل تحارب حتى الآن. ويضيف: "إن الولايات المتحدة سوف تخوض حربها على الإرهاب لآخر قطرة من الدم الإسرائيلي".
إن الضعف المستمر للقيادة العسكرية الإسرائيلية وعدم إدراكها لمدى عمق الهزيمة التي حاقت بها، لابد أن يكونا مبعث قلق عميق للولايات المتحدة ولكل دولة عربية. فقد برهنت إسرائيل من قبل على قدرتها على تشكيل إستراتيجية دبلوماسية خلاقة وعلى المناورة بمهارة لاستعادة مكانتها. كما برهنت على قدرتها على القيام، في أعقاب هزيمة عسكرية، بعملية أمينة وشفافة لمراجعة النفس. وتمثلت قوة إسرائيل دائما في قدرتها على طرح مناقشة عامة، حتى حين تثير هذه المناقشة شكوكاً في أقدس مؤسسة لديها وهي جيش الدفاع الإسرائيلي. وفي لحظات حاسمة في التاريخ الإسرائيلي أدت الهزيمة إلى تفكير متعمق، ولم تؤدِ - كما يبدو من المرجح الآن - إلى هجمة عسكرية متصاعدة ضد حماس - الأخ الناشز عن القطيع في الشرق الأوسط - لمجرد إظهار مدى جبروتها.
منذ فترة قصيرة قال أحد المسئولين الإسرائيليين: "إن كون انتصار حزب الله قد عمّق الراديكالية في الشرق الأوسط هو سبب وجيه لقتل المزيد منهم". وهذا مسلك من شأنه أن يقود إلى الكارثة. ففي ضوء العجز الأمريكي عن تغيير مجريات الأمور في الشرق الأوسط، يراود البعض في واشنطن أملٌ في أن يبدي أولمرت من الشجاعة السياسية ما يجعله يشرع في عملية طويلة للتوصل إلى السلام. وهذه العملية ستكون مؤلمة، وستقتضي مناقشات طويلة وصعبة، وربما اقتضت أيضاً انفصالاً عن البرنامج الأمريكي للمنطقة. لكن الولايات المتحدة لا تعيش في المنطقة وإسرائيل تعيش فيها. وإذا كان إجراء إسرائيل لحوار مع جيرانها قد يكون مؤلماً، فانه سيكون أقل إيلاماً، بما لا يقاس، من خسارتها لحرب في لبنان.
وسابعاً، فقد تعزز وضع حزب الله داخل لبنان على نحو يتجاوز أي قياس، كما تعزز وضع أهم حلفائه. ففي ذروة الحرب، استضاف مسيحيون لبنانيون لاجئين من [عائلات] حزب الله في بيوتهم. وأعلن الزعيم المسيحي «ميشيل عون» تأييده للقتال الذي يخوضه حزب الله. وقال أحد قادة حزب الله: "لن ننسى أبداً ما صنعه هذا الرجل من أجلنا وما قدمه من أجل جيلٍ كامل". ويحظى موقف «عون» بالإشادة من جانب الشيعة كما أن وضعه السياسي قد تعزز.
أما القيادة السنية فقد قوّضت مكانتها على نحو قاتل بموقفها الملتبس وبتعاملها مع الطائفة السنية من منظور السيد الإقطاعي الغائب عن أملاكه. ففي الأسبوع الأول من الحرب، قوبلت تصرفات حزب الله بتشكك واسع الانتشار. وفي نهاية الحرب كان التأييد الذي يلقاه راسخا واتسع عبر لبنان متجاوزا التقسيمات السياسية والطائفية. وتجد القيادة السنية نفسها الآن بين خيارين: إما تشكيل حكومة وحدة مع قادة جدد بما يؤدي إلى قيام حكومة أكثر تمثيلا وإما الدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة. ولا يحتاج المرء إلى عبقرية سياسية لكي يدرك الموقف الذي سيختاره «سعد الحريري» زعيم الأغلبية في البرلمان اللبناني.
وثامناً، فقد تعزز وضع إيران في العراق إلى حد كبير. ففي غمرة الحرب في لبنان، أعرب وزير الدفاع الأمريكي «دونالد رمسفيلد» لبعض المقربين عن قلقه من أن يؤدي الهجوم الإسرائيلي [في لبنان] إلى نتائج وخيمة للقوات الأمريكية في العراق التي كانت تواجه عداء متزايدا من القادة الشيعة والسكان الشيعة. وقد أدلت «كوندوليزا رايس» بتصريحات قالت فيها إن المظاهرات المؤيدة لحزب الله في بغداد مدبرة من إيران، الأمر الذي يكشف عن جهلها بأبسط الحقائق السياسية في المنطقة. إن وزيرة الخارجية ووزير الدفاع الأمريكيين كانا ببساطة، ودون دراية منهما، يجهلان وجود أية علاقة بين الصدريين في بغداد و "الصدريين" في لبنان. لقد كان لموقف رئيس الوزراء العراقي، «نوري المالكي»، حين لم يعلن خلال الحرب وأثناء زيارة رسمية لواشنطن، عن إدانته لحزب الله ووقوفه إلى جانب إسرائيل، وقع الصدمة على القيادة السياسية الأمريكية، وذلك على الرغم من أن "حزب الله في العراق" هو أحد الأحزاب المشاركة في الحكومة الائتلافية الحالية في العراق.
لا البنتاجون ولا وزارة الخارجية الأمريكية كانا، فيما علمنا، على درايةٍ بالأثر الذي قد تحدثه الحرب في لبنان على وضع أمريكا في العراق، لأن أياً من هاتين الوزارتين لم تطلب من أجهزة المخابرات الأمريكية إمدادها بمعلومات حول هذه المسألة. إن الولايات المتحدة تنفق مليارات الدولارات سنويا لجمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها، ولكن هذا المال يذهب سدى.
وتاسعاً، فان مركز سوريا قد تعزز في حين فشل البرنامج الأمريكي- الفرنسي للبنان. فليس ثمة دلائل في الأفق توحي بأن لبنان سوف يشكّل حكومة موالية لأمريكا ومعادية لسوريا بشكل سافر. وكون الرئيس السوري، «بشار الأسد»، قد استطاع أن يقترح في أعقاب الحرب ترتيباً سياسياً مع إسرائيل، فان هذا دليل قوة لا دليل ضعف. وليس من المستبعد أيضاً أن يتمكن [«بشار الأسد»] من استخلاص الدروس الصحيحة من الحرب، وأن يعتقد انه قادر، هو الآخر، على مواجهة إسرائيل بنجاح.
ولكن بصرف النظر عن هذه الاحتمالات، فان الأحداث التي جرت في الآونة الأخيرة تبين أن آلافاً من الطلاب والوطنيين اللبنانيين الذين خرجوا للاحتجاج على التورط السوري في لبنان بعد مقتل «رفيق الحريري»، قد استشعروا غرابة المفارقة حين وجدوا أنفسهم يحتمون من القصف الإسرائيلي في مخيمات أقامتها الحكومة السورية. لقد أصابت «رايس» في أمر واحد هو قولها إن قيام سوريا بتوفير ملاذ للاجئين اللبنانيين كان مجرد عمل من أعمال الدهاء السياسي - عمل يبدو أن الولايات المتحدة عاجزة عن محاكاته. إن سوريا واثقة الآن من وضعها السياسي. وفي حقبة سابقة، كان وجود مثل هذه الثقة عند إسرائيل يدفعها إلى طرح مبادرات سياسية تجاه أكثر أعدائها السياسيين تشددا.
وعاشراً، وربما كان هذا هو الأمر الأهم، فقد غدا من الواضح الآن أن قيام الولايات المتحدة بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية لن يلقى سوى تأييد ضئيل من العالم الإسلامي. ومن المرجح أن يؤدي أيضاً إلى رد عسكري يطيح بالبقايا الأخيرة للقوة السياسية الأمريكية في المنطقة. فالأمر الذي كان يُظن انه "حقيقةٌ مفروغٌ منها" منذ بضعة أسابيع قد غدا من الواضح الآن انه بعيد الاحتمال. فإيران لن تُجبر على الإذعان. وإذا شنت الولايات المتحدة حملةً عسكرية على حكومة طهران، فسوف ينحدر أصدقاء أمريكا في المنطقة إلى مأزق شديد الخطورة، سوف ترتعد دول الخليج العربية خوفاً، وسيتحول ال 138 ألف جندي أمريكي في العراق إلى رهائن في أيدي السكان الشيعة الممتلئين غضبا، وسوف ترد إيران بشن هجوم على إسرائيل. بوسعنا الآن أن نتجاسر فنقول ما أصبح واضحا: إذا ما حدث هذا الهجوم فان الولايات المتحدة سوف تُهزم.
الخلاصة
إن دلالة انتصار حزب الله في حربه الأخيرة مع إسرائيل أكبر بكثير جداً مما تدرك الولايات المتحدة وأوربا. فقد جاء انتصار حزب الله ليعكس اتجاه المد [الإسرائيلي] في عام 1967 - حين مُنيت مصر وسوريا والأردن بهزيمة ساحقة أدت إلى زلزلة الكيانات السياسية في المنطقة ومجيء أنظمة لا هَمّ لها سوى إعادة تشكيل سياستها الخارجية بما يلائم القوة الإسرائيلية والأمريكية. إن تلك القوة قد أصيبت في مكانتها وانتكست، وهناك الآن قيادة جديدة تبزغ في المنطقة.
إن الدرس الأهم المستخلص من الحرب قد يغيب عن المستويات الرفيعة للنخب السياسية في واشنطن ولندن - تلك النخب المؤيدة لإسرائيل والتي تقول إنها تدافع عن القيم و تحارب من أجل الحضارة - ولكنه لا يغيب عن شوارع القاهرة وعمان ورام الله وبغداد ودمشق وطهران. لقد حاربت الجيوش العربية ستة أيام في عام 1967 وهُزمت، وقاتلت ميلشيا حزب الله في لبنان 34 يوما وانتصرت. وقد رأينا هذا بأعيننا في مقاهي القاهرة وعمان، حيث كان البسطاء من أصحاب الدكاكين والفلاحين والعمال يحملقون في شاشات التليفزيون ليتابعوا نشرات الأخبار بينما يرشفون الشاي ويواصلون بهدوء - وكأنما يكلّمون أنفسهم- إحصاء الأرقام: "سبعة"، "ثمانية"، "تسعة"....
____________________________
*«ألاستير كروك» و«مارك بيري» هما مديرا «منتدى النزاعات». «كروك» مسئول سابق في المخابرات البريطانية (MI6) ومستشار شئون الشرق الأوسط السابق لـ«خافيير سولانا»، الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي. أما «بيري» فهو محلل وكاتب متخصص في شئون العسكرية والاستخباراتية وشئون السياسية الخارجية ومؤلف لعدة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
عنوان النص الأصلي باللغة الإنجليزية:HOW HEZBOLLAH DEFEATED ISRAEL
PART 3: The political war
By Alastair Crooke and Mark Perry
(ترجمة: الشارع السياسي)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire