أظن أن هناك شواهد عدة تشير إلى أن وفاة عمر سليمان كانت غامضة.. حتى أسابيع قليلة مضت كان الرجل يبدو فى كامل صحته، وإلاّ لما كان قد تقدم للترشح لرئاسة الجمهورية مع ما يستتبعه ذلك من حملة انتخابية مرهقة ومن مسؤوليات جسام إذا ما كان قد فاز بالمنصب.. وفى المشاهد القليلة التى تم تصويره فيها أو سُمع فيها صوته كانت القامة منتصبة والصوت نابضاً بالعزم والقوة.. بدأت معركته الانتخابية وانتهت فى فترة قصيرة للغاية، وأحاطتها غيوم كثيفة ما بين إعلانه الترشح فى اللحظة الأخيرة واستبعاده المفاجئ على التو.. واستمرت الملابسات المحيرة تحيط بالرجل، فإذا به يغادر البلاد فجأة فى 10 يونيو إلى مقصد مثير للتساؤل فى الإمارات، ثم تلحق به بناته بعدها بعشرة أيام.. ولا تمضى أيام معدودة أخرى حتى يتبعه أحمد شفيق، رفيقه فى الحكم فى الأيام الأخيرة لـ«مبارك»، ومعه بناته أيضاً، ولا نسمع بعد ذلك عن الرجل شيئاً طوال شهر كامل حتى نفاجأ بخبر موته فى مستشفى فى أمريكا دون أى مقدمات.. ثم نسمع بعد ذلك بساعات عن كشف محاولة لاغتيال أحمد شفيق، أفصح عنها «شفيق» ذاته.
عمر سليمان ليس رجلاً عادياً.. هو مرشح سابق للرئاسة، ونائب رئيس سابق تولى إدارة البلاد فى أيام الثورة العصيبة، ومدير مخابرات مبارك لنحو عشرين عاماً.. هو الصندوق الأسود لعصر مبارك، كما سماه معظم المعلقين وكما سمى هو نفسه، بل هو صندوق أسود أيضاً بالنسبة لإسرائيل وأمريكا وغيرهما.. لذلك لم تمر وفاته المباغتة دون أن تحدث ضجة وتثير لغطاً وتطرح أسئلة لا نميز فيها بين الحقائق والشائعات.. نشر موقع القناة السابعة الإسرائيلية «عاروتس شيفع» أن عمر سليمان كان مكلفاً بمهمة وساطة سرية بين سوريا وإسرائيل للحيلولة دون مهاجمة الثوار السوريين بالسلاح الكيميائى حتى لا تنقل الرياح سمومه إلى إسرائيل، ونقلت عن مصادر غير متطابقة أنه كان حاضراً الاجتماع الأمنى الذى تم تفجيره فى دمشق وأن جثته وصلت متفحمة إلى أمريكا.. لم تؤكد وسائل إعلام أخرى هذه الرواية ولا غيرها.
فى كل الأحوال لم يقتنع كثيرون بأن الوفاة طبيعية، بمن فى ذلك العديدون من أنصاره.. وزاد من الهواجس ما أعلنه المقربون منه من أنه ذهب إلى أمريكا ليجرى فحوصاً طبية روتينية، وأنه لم يكن يشكو من عرض محدد، ثم تراكمت سحب الغموض عندما أُعلن أن عمر سليمان توفى بمستشفى كليفلاند الشهير بسبب مرض نادر، ولكن صهره أضاف إلى المشهد علامات تعجب أخرى عندما صرح بأنه توفى على سريره بالمنزل الذى كان يقيم فيه فى أمريكا.
يقال إن صحة عمر سليمان اعتلّت فى الشهور الأخيرة من حياته، ويؤكد الصحفى الألمانى فولك هارد، الذى يعتبر عمدة المراسلين الأجانب المقيمين فى القاهرة، أن الرجل كان مصاباً بسرطان الدم منذ فترة طويلة، ومع ذلك هناك كثيرون يرجحون أنه حتى وإن كان المرض قد تعقب عمر سليمان لسنوات فلم يكن هو الذى أدى إلى وفاته وإنما أدى إليها ماضيه الذى تعقبه منذ تولى إدارة المخابرات قبل عشرين سنة.. خلال هذه الفترة كان الرجل حلقة الاتصال الأساسية مع إسرائيل التى اعتبرته، مثل مبارك تماماً، كنزاً استراتيجياً بالنسبة لها، وكان سليمان أيضا قناة الاتصال الأساسية بين الإدارة الأمريكية ومبارك فى كل الشؤون، أمنية وغير أمنية، بما فى ذلك عمليات التعذيب بالوكالة للجهاديين الذين طاردتهم أمريكا، وهو الدور الذى تقول جريدة الجارديان إنه كان «الأكثر ظلمة فى الحرب على الإرهاب».. وكان دوره فى مقتل وزير الخارجية الليبى الأسبق منصور الكخيا أكثر غموضاً، حتى إن وزير خارجية ليبيا الأسبق اتهمه بأنه سلم الكخيا للقذافى.
من هذه الروايات تتزايد الشبهات حول مسؤولية سليمان فى العمل لصالح دول أخرى إضافة إلى كونه شريكا لمبارك فى كل القرارات الكبرى التى قزمت دور مصر ومكانتها فى المنطقة وفى العالم.. ومن المؤكد أن دور سليمان هذا جلب له خارج مصر الأعداء بالقدر الذى جلب الأصدقاء.. كذلك كانت مكانته البارزة فى نظام مبارك تجلب له عداوات أخرى فى الداخل، لعل أشهرها تلك التى كانت بينه وبين سوزان وجمال مبارك منذ بدأ مشروع التوريث، فقد كان سليمان فى نظرهما هو المنافس الوحيد لجمال على الخلافة.. من هنا لم يكن غريبا ما نشره الكاتب جهاد الخازن أمس الأول فى جريدة الحياة من أن سليمان أبلغه فى لقاء أخير معه أنه يرجح أن يكون جمال وراء محاولة اغتياله أثناء الثورة.. وفى حوارات أخرى أجراها الرجل فى شهوره الأخيرة يتضح أنه يعتبر الإخوان المسلمين أعداءه وأعداء مصر الأول.
دعا هذا السجل المثير للجدل بعض أتباع سليمان إلى المطالبة بالتحقيق فى وفاته، واستدعى بعضهم من الذاكرة ملابسات وفاة الرئيس الفلسطينى عرفات وكذلك ملابسات نهاية أشرف مروان وغيره، ونادت بنفس المطلب قوى سياسية مختلفة، كما قدم المحامى عاصم قنديل بلاغا إلى النائب العام يطالب فيه أجهزة الدولة بإجراء التحقيقات اللازمة حول النهاية التى قد تكون أطراف داخلية أو خارجية قد تورطت فيها، ويطالب بالاستماع إلى أقوال الرئيس المخلوع ورئيس جهاز المخابرات العامة الحالى وإلى أقوال الأستاذ هيكل فى هذا الخصوص وكذلك بالكشف عن التقارير الصحية لسليمان قبل أن يغادر مصر.. ربما يكون محامون آخرون قد تقدموا ببلاغات مماثلة، إلاّ أن أهمية بلاغ قنديل الأخير تأتى بعد بلاغين سابقين، أحدهما قدمه بصفته محاميا عن الثوار فى قضية مبارك، وفيه يتهم عمر سليمان بحجب معلومات عن العدالة بعد أن صرح بأن لديه بيانات لم يدل بها أمام المحكمة، وكان من شأن هذا البلاغ أن يمنع سليمان من مغادرة البلاد للتحرى عن المعلومات التى لديه.. أما البلاغ الثانى فقد طالب فيه النائب العام بوضع سليمان على قوائم ترقب الوصول والمنع من السفر.
تثير هذه البلاغات مسألة مهمة، هى أن القيادات العليا التى تشغل مناصب حساسة محظور عليها إجراء الفحوصات الطبية أو الخضوع للأشعة أو العمليات إلاّ تحت ظروف خاصة، وبإشراف من الأجهزة الأمنية المختصة، خشية تعرضها لاستلاب المعلومات منها أثناء إجراءات التخدير أو تناول الحقن والأدوية وغير ذلك، بل إن هناك قيودا مماثلة تنطبق على السفر فى عمومه لأى جهة كان وبأى سبب.. لا أحد يعرف إن كانت هذه الإجراءات قد اتبعت قبل سفر سليمان، وإن كانت الشواهد تشير إلى أن ذلك لم يحدث.. وإذا كان هذا صحيحا بالنسبة لسليمان فلاشك أن الفريق شفيق، الذى يمتلك هو الآخر معلومات تتعلق بأمن مصر القومى، لم تطبق عليه الإجراءات المطلوبة، رغم أنه كانت قد قدمت بلاغات ضده للنيابة بتهم فساد، وأنه كان مطلوبا للشهادة فى قضية موقعة الجمل التى يتهمه الثوار بالمسؤولية عنها.
الخشية أن تكون البلاد قد فلت زمامها إلى حد التفريط فى أسرارها الحيوية، والتفريط أيضا فى حياة من يملكون هذه الأسرار.. الخشية أيضا أن يكون بعض الكبار قد أفلتوا من الوقوف أمام العدالة، وربما يكون بعضهم قد أفلت بأموال الشعب المنهوبة.. الملف لا يمكن أن يغلق دون تحقيق شامل عاجل.. سيفلت البعض من الحساب، ولكن الله يترقب الوصول.
الله يترقب الوصول - حمدي قنديل
قسم الأخبار
Mon, 30 Jul 2012 12:35:00 GMT
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire