أنور ياسين
ما أن نسمع بكلمة الأوقاف حتى يتبادر إلى أذهاننا المساجد ودور تحفيظ القرآن, وغير ذلك من الصور النمطية التي التصقت بأعماقنا عن هذه الكلمة. وفي الحقيقة وإن كانت المساجد جزءًا من أعمال الوقف, إلا أن الأوقاف وحتى عهد قريب ظلت دعامة للنهضة المدنية التي كانت تشهدها العديد من المدن الإسلامية. وببدأ ضمور دور الأوقاف في المجتمعات, وابتلاع كثير من الحكومات والأنظمة لها, تراجعت تلك النهضة, لتصبح الأوقاف الإسلامية حبيسة كتب التاريخ والفقه, وحبيسة الصور النمطية في أذهاننا. وبفقدانها خسر المجتمع المدني أكبر مصدر لطالما اعتبره الناس أساسًا في مساندة حقوق الإنسان.
عرفت الأوقاف أيضًا بالأحباس وأطلق عليها هذا الاسم نسبة لحبس أصل المال, وجعل الأصل والعائد في سبيل الله. فبذلك تخرج الملكية من يد الواقف, ولا يستطيع الرجوع فيه, ولا بيعه, وليس لورثته فيه شيء. وفي ذلك ورد في صحيح مسلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم, لعمر بن الخطاب “إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها, غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع, ولا يوهب ولا يورث”. وكان هذا الحديث منه صلى الله عليه وسلم ردًا على سؤال عمر عن أرضٍ له أراد أن يتصدق بها.
فمنذ ذلك الحين مارس المسلمين هذه السنة الحسنة, والتي أصبحت معلمًا إقتصاديًا وسياسيًا وإجتماعيًا من معالم مجتماعتهم. فصاروا يوقفون الأموال في سبيل بناء المساجد, والمستشفيات, والمدارس, والجامعات, والمكتبات, والإنفاق على البحث العلمي. ويوقفون المساكن للطلاب والجنود والمرضى والمكفوفين وعمال القطاع العام, ولذوي العاهات والأمراض النفسية. ويهبون المحلات التجارية ليرجع ريعها لإعانة مبتغي الزواج, والمطلقات والأرامل, وحفر آبار المياه, وتشييد السدود المائية, وإضاءة الطرقات. ولم يقتصر الوقف على رعاية حاجات الإنسان المسلم وغير المسلم بل كانت هناك مناطق بها أوقاف لرعاية الحيوان والطيور. وظهرت هناك أيضًا أوقاف الأموال المنقولة كالآلات الزراعية والصناعية والحربية, والمواشي, والنقود, والكتب, والقمح والحبوب. كل ذلك في صورة حضارية تعكس قيمة التراحم وابتغاء الثواب الأخروي, وتجاهل المطامع الدنيوية والمكاسب الآنية, ووعي بضرورة تأمين حاجات المجتمع خاصة للشرائح الفقيرة مما يضمن لها الكفاية المعيشية بصورة دائمة.
إذًا يتضح دور الوقف في عمارة الأرض وحماية الإنسان والبيئة والحيوان. ولكن أين ذهب كل ذلك ولماذا نرى تراجعًا مخيفًا في الأوقاف, وركضًا نحو الفردية, ونبذًا للروح الجماعية والأعمال التكافلية. وفي الحقيقة لا نستطيع أن نعيد هذا التراجع لسبب واحد, فهناك تداخل في العوامل التي أدت لتجاهل هذا المعلم الحضاري العالمي, منها ما هو راجع لإنتشار الجهل بأهمية الوقف, ومنها ما كان بفعل القوى الاستعمارية التي أساءت إدارة الأوقاف حتى أوقعتها في ديون مغرقة أدت لبيع هذه الأوقاف لتسديد ديونها. فقد ذكر أحد الباحثين أنه في عام 1928 استولت فرنسا في المغرب على عشرة آلاف هكتار من الأراضي الوقفية وتم استغلالها لصالح توطين المستعمر, كما استولت فرنسا على عدد من المباني الوقفية لتحولها إلى مكاتب إدارية استعمارية. وهناك أيضًا الإهمال المتعمد لمباني الأوقاف حتى صارت أماكن مهجورة وخربة ومهددة بالانهيار.
وبعد الاستعمار تأسست الدول الحديثة وأسندت إليها إدارة الأوقاف, وغالبًا ما تنتهج الدولة نهج التعامل الاستعماري مع الأوقاف ولكن بشكل أقل شراسة. فأحكمت الدولة قبضتها على الأوقاف فصارت وزارة رسمية, وترك الناس مهمة إدارة الأوقاف للدولة وسادت الاتكالية واللامبالاة بالشأن العام.
يتضح مما سبق أن إسناد إدارة الأوقاف للدولة بات أمرًا مضرًا, بخاصة إذا ما أدت لإبعاد أفراد المجتمع عن الإهتمام بالشأن العام, أو إذا ما توالت الحكومات والأحزاب في السلطة واستغلت الأوقاف لمآرب حزبية خاصة. لذا من الضروري أن تعود الأوقاف لتصبح إحدى مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية, فيديرها المجتمع ويرعاها ويحميها من الاندثار لتعود كما كانت ثروة تنموية لا يستغنى عنها.
وقبل ذلك كله, لابد من عودة الوعي بأهمية حركة الوقف في حياة المجتمعات في كل بقاع الأرض, وتقع المسؤولية على عاتق الدعاة والمثقفين لحث الناس على المساهمة في وقف الأموال وإدارتها, وإزالة الشكوك والشبهات عمن يتردد في حبس أمواله بسبب بعض النماذج الشاذة والسيئة التي تلاعبت بأموال الأوقاف, بل يجب إعلام الواقف أن بإمكانه إدارة الوقف بنفسه أو يُعين ناظرًا يرتضيه لوقفه كما هو معروف في الفقه الإسلامي. وعلى الباحثين بذل الجهد في الكشف عن حجم الأوقاف وسبل تطويرها عن طريق صيغ التمويل والاستثمار المعاصرة. كما على مؤسسات المجتمع المدني تطوير أداءها في إدارة الأوقاف, وتيسير الإجراءات لمن أراد أن يوقف مالًا أو أرضًا أو غير ذلك, لتنتعش هذه الحركة المباركة ولتعود دعامة حضارية إنسانية في خدمة مجتمعات العالم أجمع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire