vendredi 26 août 2011

د.عبد الوهاب المسيرى : نهاية إسرائيل

626
فى 17 أغسطس 2006، أى أثناء الحرب العربية الإسرائيلية السادسة، وبينما كانت الطائرات الإسرائيلية تدك المدن والقرى والبنية التحتية اللبنانية وتُسيل دم المدنيين، نشرت صحيفة معاريف مقالاً كتبه الصحفى يونتان شيم بعنوان "أسست تل أبيب فى عام 1909 وفى عام 2009 ستصبح أنقاضاً ". جاء فى المقال "أنه قبل مائة عام أقاموا أولى المدن العبرية، وبعد مائة عام من العزلة قضى أمرها". ما الذى يدعو مثل هذا الكاتب للحديث عن النهاية، نهاية إسرائيل، فى وقت بلغت فيه القوة العسكرية الإسرائيلية ذروتها، وتجاوز الدعم الأمريكى، السياسى والمالى والعسكرى، لها كل الحدود والخطوط الحمراء؟ كيف يمكن تفسير هذا الموقف؟
ابتداء لابد وأن نذكر حقيقة تاهت عن الكثيرين فى العالم العربى وهو أن موضوع نهاية إسرائيل متجذر فى الوجدان الصهيونى. فحتى قبل إنشاء الدولة أدرك كثير من الصهاينة أن المشروع الصهيونى مشروع مستحيل وأن الحلم الصهيونى سيتحول إلى كابوس. وبعد إنشاء الدولة، وبعد أن حقق المستوطنون الصهاينة "النصر" على الجيوش العربية تصاعد هاجس النهاية. ففى عام 1954 قال موشيه ديان، وزير الدفاع والخارجية الإسرائيلى، فى جنازة صديق له قتله الفدائيون الفلسطينيون: "علينا أن نكون
مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة". النهاية، ماثلة دائما فى العقول، فالضحايا الذين طردوا من ديارهم تحولوا هم وأبناؤهم إلى فدائيين يقرعون الأبواب يطالبون بالأرض التى سلبت منهم. ولذا فإن الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري يرى أن كل إسرائيلي يُولَد "وفي داخله السكين الذي سيذبحه"، فهذا التراب (أي إسرائيل) لا يرتوي"،فهو يطالب دائماً "بالمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى". فى الميلاد يوجد الموت وفى البداية توجد النهاية.
وتتناول قصة "في مواجهة الغابة" التي كتبها الروائي الإسرائيلي أبراهام يهوشوا فى النصف الأول من الستينيات الحالة النفسية لطالب اسرائيلى عُيِّن حارساً لغابة غرسها الصندوق القومي اليهودي في موقع قرية عربية أزالها الصهاينة مع ما أزالوه من قرى ومدن. ورغم أن هذا الحارس ينشد الوحدة، إلا أنه يقابل عربياً عجوزاً أبكم من أهل القرية يقوم هو وابنته برعاية الغابة، وتنشأ علاقة حب وكره بين العربي والإسرائيلي، فالإسرائيلي يخشى انتقام العربي الذى أصيب بعاهته أثناء عملية التنظيف العرقى التى قام بها الصهاينة عام 1948. ولكن وعلى الرغم من هذا يجد نفسه منجذباً إلى العجوز العربى بصورة غير عادية، بل يكتشف أنه يحاول، بلا وعي، مساعدته في إشعال النار فى الغابة. وفي النهاية، عندما ينجح العربي في أن يضرم النار في الغابة، يتخلص الحارس من كل مشاعره المكبوتة، ويشعر براحة غريبة بعد احتراق الغابة، أى بعد نهاية اسرائيل!
وفى اجتماع مغلق فى مركز الدراسات السياسة والاستراتيجية فى الأهرام أخبرنا الجنرال الفرنسي أندريه بوفر، الذي قاد القوات الفرنسية في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بواقعة غريبة، كان هو شاهدها الوحيد. فقد ذهب لزيارة إسحق رابين في منتصف يونية 1967 أى بعد انتهاء الحرب بعدة أيام، وبينما كانا يحلقان فى سماء سيناء والقوات الإسرائيلية المنتصرة فى طريق عودتها إلى إسرائيل بعد أن أنجزت مهمتها، قام الجنرال بوفر بتهنئة رابين على نصره العسكرى، ففوجىء به يقول: "ولكن ماذا سيتبقى من كل هذا؟" “what will remain of it?” all. فى الذروة أدرك الجنرال المنتصر حتمية الهوه والنهاية.
إن موضوع النهاية لا يحب أحد فى إسرائيل مناقشته، ولكنه مع هذا يُطل برأسه فى الأزمات. ففى أثناء انتفاضة 1987، حين بدأ الإجماع الصهيونى بخصوص الاستيطان يتساقط، حذر إسرائيل هاريل المتحدث باسم المستوطنين من أنه إذا حدث أى شكل من أشكال الانسحاب والتنازل (أى الانسحاب من طرف واحد). فإن هذا لن يتوقف عند الخط الأخضر (حدود 1948) إذ سيكون هناك انسحاب روحى يمكن أن يتهدد وجود الدولة ذاتها (الجيروساليم بوست 30يناير1988). وأخبر رئيس مجلس السامرة الإقليمى شارون (فى مشادة كلامية معه) "إن هذا الطريق الدبلوماسى هو نهاية المستوطنات، إنه نهاية اسرائيل" (هآرتس17يناير2002). ويردد المستوطنون أن الانسحاب من نابلس يعنى الانسحاب من تل أبيب.
ومع انتفاضة الأقصى تحدثت الصحف الإسرائيلية عدة مرات عن موضوع نهاية إسرائيل. فقد نشرت جريدة يديعوت أحرونوت (27 يناير 2002) مقالا بعنوان "يشترون شققاً فى الخارج تحسباً لليوم الأسود"، اليوم الذى لا يحب الإسرائيليون أن يفكروا فيه، أى نهاية اسرائيل!. والموضوع نفسه يظهر فى مقال ياعيل باز ميلماد (معاريف 27ديسمبر2001) الذى يبدأ بالعبارة التالية: "أحاول دائماً أن أبعد عنى هذه الفكرة المزعجة، ولكنها تطل فى كل مرة وتظهر من جديد: هل يمكن أن تكون نهاية الدولة كنهاية الحركة الكيبوتسية؟ ثمة أوجه شبه كثيرة بين المجريات التى مرت على الكيبوتسات قبل أن تحتضر أو تموت، وبين ما يجرى فى الآونة الأخيرة مع الدولة". وقد لخص جدعون عيست الموقف فى عبارة درامية "ثمة ما يمكن البكاء عليه: اسرائيل"(يديعوت أحرونوت 29 يناير2002) .
بل إن مجلة نيوزويك (2إبريل2002) صدرت وقد حمل غلافها صورة نجمة اسرائيل، وفى داخلها السؤال التالى: "مستقبل اسرائيل: كيف سيتسنى لها البقاء؟". وقد زادت المجلة الأمور إيضاحاً حين قالت: "هل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة؟ وبأى ثمن؟ وبأية هوية؟". ولكن ما يهمنا فى هذا السياق ما قاله الكاتب الإسرائيلى عاموس إيلون: الذى أكد أنه فى حالة يأس لأنه يخشى أن يكون الأمر قد فات". ثم أضاف "لقد قلت لكم مجرد نصف ما أخشاه" (النصف الثانى أن الوقت قد فات بالفعل). ويتكرر الحديث عن نهاية اسرائيل فى مقال إيتان هابر بعنوان "ليلة سعيدة أيها اليأس.. والكآبة تكتنف اسرائيل" (يديعوت أحرونوت 11نوفمبر2001). يشير الكاتب إلى أن الجيش الأمريكى كان مسلحاً بأحدث المعدات العسكرية، ومع هذا يتذكر الجميع صورة المروحيات الأمريكية تحوم فوق مقر السفارة فى سايجون، محاولة إنقاذ الأمريكيين وعملائهم المحليين فى ظل حالة من الهلع والخوف حتى الموت. إن الطائرة المروحية هى رمز الهزيمة والاستسلام والهروب الجبان فى الوقت المناسب. ثم يستمر الكاتب نفسه فى تفصيل الموقف: "إن جيش الحفاة فى فيتنام الشمالية قد هزم المسلحين بأحدث الوسائل القتالية. ويكمن السر فى أن الروح هى التى دفعت المقاتلين وقادتهم إلى الانتصار. الروح تعنى المعنويات والتصميم والوعى بعدالة النهج والإحساس بعدم وجود خيار آخر. وهو ما تفتقده إسرائيل التى يكتنفها اليأس".
أما أبراهام بورج فيقول في مقال له (يديعوت أحرونوت، 29 أغسطس 2003) إن "نهاية المشروع الصهيوني على عتبات أبوابنا. وهناك فرصة حقيقية لأن يكون جيلنا آخر جيل صهيوني. قد تظل هناك دولة يهودية، ولكنها ستكون شيئا مختلفاً، غريبة وقبيحة... فدولة تفتقد للعدالة لا يمكن أن يُكتب لها البقاء... إن بنية الصهيونية التحتية آخذة في التداعي... تماماً مثل دار مناسبات رخيصة في القدس، حيث يستمر بعض المجانين في الرقص في الطابق العلوي بينما تتهاوى الأعمدة في الطابق الأرضي". ثم، أطل الموضوع برأسه مجدداً في مقال ليرون لندن (يديعوت أحرونوت 27 نوفمبر 2003) بعنوان: "عقارب الساعة تقترب من الصفر لدولة إسرائيل"، وجاء فيه "في مؤتمر المناعة الاجتماعية الذي عُقد هذا الأسبوع، عُلم أن معدلاً كبيراً جداً من الإسرائيليين يشكون فيما إذا كانت الدولة ستبقى بعد 30 سنة. وهذه المعطيات المقلقة تدل على أن عقارب الساعة تقترب من الساعة 12، (أى لحظة النهاية) وهذا هو السبب في كثرة الخطط السياسية التي تولد خارج الرحم العاقر للسلطة". وحينما أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها بخصوص الجدار العازل وعدم شرعيته بدأ الحديث على الفور عن أن هذه هى بداية النهاية.
والسؤال الذى يطرح نفسه: لماذا هاجس النهاية الذى يطارد الإسرائيليين؟ سنجد أن الأسباب كثيرة، ولكن أهمها إدراك المستوطنين الصهاينة أن ثمة قانوناً يسري على كل الجيوب الاستيطانية، وهو أن الجيوب التي أبادت السكان الأصليين (مثل أمريكا الشمالية واستراليا) كُتب لها البقاء، أما تلك التي أخفقت في إبادة السكان الأصليين (مثل ممالك الفرنجة التى يقال لها الصليبية والجزائر وجنوب أفريقيا) فكان مصيرها الزوال. ويدرك المستوطنون الصهاينة جيداً أن جيبهم الاستيطانى ينتمى لهذا النمط الثانى وأنه لا يشكل أي استثناء لهذا القانون. إن الصهاينة يدركون أنهم يعيشون فى نفس الأرض التى أقيمت فيها ممالك الفرنجة وتحيط بهم خرائب قلاع الفرنجة. التى تذكرهم بهذه التجربة الاستيطانية التى أخفقت وزالت. ومما يعمق من هاجس النهاية أن الوجدان الغربى والصهيونى يوحد من البداية بين المشروع الصليبى والمشروع الصهيونى ويقرن بينهما، فلويد جورج رئيس الوزارة البريطانية التي أصدرت وعد بلفور، صرح أن الجنرال اللنبي الذي قاد القوات الإنجليزية التي احتلت فلسطين شن وربح آخر الحملات الصليبية وأعظمها انتصاراً. ويمكننا أن نقول إن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الفرنجي بعد أن تمت علمنته، وبعد أن تم إحلال المادة البشرية اليهودية التي تم تحديثها وتطبيعها وتغريبها وعلمنتها محل المادة البشرية المسيحية.
لكل هذا يدرس العلماء الإسرائيليون المقومات البشرية والاقتصادية والعسكرية للكيان الفرنجى، والعلاقة بين هـذا الكيـان والوطن الأصلي المساند له. وقد وجَّه كثير من الباحثين الصهاينة اهتمامهم لدراسة مشكلات الاستيطان والهجرة التي واجهها الكيان الفرنجى ومحاولة فهم عوامل الإخفاق والفشل التي أودت به.
ولكن الاهتمام لا يقتصر على الدوائر الأكاديمية، فنجد أن شخصيات سياسية عامة مثل إسحق رابين وموشيه ديان يهتمون بمشاكل الاستيطان والهجرة. ففي سبتمبر 1970، عقد إسحق رابين مقارنة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية حيث توصَّل إلى أن الخطر الأساسي الذي يهدد إسرائيل هو تجميد الهجرة، وأن هذا هو الذي سيؤدي إلى اضمحلال الدولة بسبب عدم سريان دم جديد فيها.
ويورى أفنيرى، الكاتب الصحفى الإسرائيلى، وعضو الكنيست السابق، كان من المستوطنين الصهاينة الذين أدركوا منذ البداية استحالة تحقيق المشروع أو الحلم الصهيونى. ولذا كان ينشر منذ الخمسينات مجلة هاعولام هزه (هذا العالم) والتى تخصصت فى توجيه النقد للسياسات الصهيونية. وكان أفنيرى يحذر الصهاينة من مصير ممالك الفرنجة التى لم يبق منها سوى بعض الخرائب. وقد صدر له كتاب بعنوان إسرائيل بدون صهيونية ( 1968) عقد فيه مقارنة مستفيضة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية، فإسرائيل مثل ممالك الفرنجة مُحاصَرة عسكرياً لأنها تجاهلت الوجود الفلسطيني ورفضت الاعتراف بأن أرض الميعاد يقطنها العرب منذ مئات السنين. ثم عاد أفنيري إلى الموضوع، عام 1983، بعد الغزو الصهيوني للبنان، في مقال نشر في هاعولام هزه بعنوان "ماذا ستكون النهاية"، فأشار إلى أن ممالك الفرنجة احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التي احتلتها الدولة الصهيونية، وأن الفرنجة كانوا قادرين على كل شيء إلا العيش في سلام، لأن الحلول الوسط والتعايش السلمي كانا غريبين على التكوين الأساسي للحركة. وحينما كان جيل جديد يطالب بالسلام كانت مجهوداتهم تضيع سدى مع قدوم تيارات جديدة من المستوطنين، الأمر الذي يعني أن ممالك الفرنجة لم تفقد قط طابعها الاستيطاني. كما أن المؤسسة العسكرية الاقتصادية للفرنجة قامت بدور فعال في القضاء على محاولات السلام، فاستمر التوسع الفرنجي على مدى جيل أو جيلين. ثم بدأ الإرهاق يحل بهم، وزاد التوتر بين المسيحيين الفرنجة من جهة وأبناء الطوائف المسيحية الشرقية من جهة أخرى، الأمر الذي أضعف مجتمع الفرنجة الاستيطاني، كما ضعف الدعم المالي والسـكاني من الغـرب. وفي الوقت نفســه، بدأ بعـث إسلامي جديد، وبدأت الحركة للإجهاز على ممالك الفرنجة، فأوجد المسلمون طرقاً تجارية بديلة عن تلك التي استولى عليها الفرنجة. وبعد موت الأجيال الأولى من أعضاء النخبة في الممالك، حل محلهم ورثة ضعفاء في وقت ظهرت فيه سلسلة من القادة المسلمين العظماء ابتداءً من صلاح الدين ذي الشخصية الأسطورية حتى الظاهر بيبرس. وظل ميزان القوى يميل لغير صالح الفرنجة، ولذا لم يكن هناك ما يوقف هزيمتهم ونهايتهم ونهاية الممالك الصليبية!
لكل هذا عاد هاجس النهاية مرة أخرى بعد الحرب السادسة وبعد الصمود اللبنانى العظيم فى وجه الهمجية الأسرائيلية، وبعد إبداع المقاومة اللبنانية. فقد اكتشف الصهاينة حدود القوة ووصلوا إلى مشارف النهاية، وكما قال المثقف الإسرائيلى شلومو رايخ: "إن اسرائيل تركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى نهايتها المحتومة". فالانتصارات العسكرية لم تحقق شيئاً، لأن المقاومة مستمرة مما يؤدى إلى ما سماه المؤرخ الاسرائيلى يعقوب تالمون (نقلاً عن هيجل) "عقم الانتصار".
والله أعلم

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire