قل لى بالله عليك: ماذا تفعل لو جاء إلى بلادنا أجنبى غير مسلم فتنه ما قرأه عن حرية الفكر فى الإسلام التى لا تضاهيها حرية فكر فى أى دين أو اعتقاد، ثم جاء إلينا وشاهد هوجات التكفير والتفسيق والاتهام بمحاربة الإسلام التى تندلع بيننا كل عشية وضحاها بسبب رأى قاله هذا أو مقال كتبه ذلك؟ ماذا سنقول لو سألنا الرجل: «إذا كنتم لا تبيحون أن يقول الإنسان رأيا ففيم الحرية إذن فى دينكم؟»، وماذا سنقول لو كان الرجل مطلعا على تاريخنا وسألنا فاضحا لنا «فى أيام مجدكم عندما كنتم تحكمون العالم كنتم تتناقشون فى ذات الله وصفاته وكان بينكم «المرجئة» و«المجسدة» و«المشبهة» و«المعتزلة» وعشرات المذاهب والفرق التى ظلت فترة طويلة تتصارع فيما بينها صراعا فكريا لم يشهد التاريخ مثيلا لرقيه فما بالكم اليوم وأنتم موطأ كل داعس تظنون أن كلا منكم يمتلك الحقيقة المطلقة».
ماذا سنقول له لو سألنا: هل التكفير فى دينكم سهل هكذا لكى ترموا به بعضكم عمال على بطال؟ بالطبع لو ذهب الرجل إلى كتب العلماء الثقات فى ديننا لوجد أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، يجعل من الاتهام بالكفر جريمة يعاقب عليها الشرع، ففى الحديث الصحيح «من قال لأخيه يا كافر فقد كفر»، وفى الحديث الصحيح الآخر «أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما… »، وعندما قتل سيدنا أسامة بن زيد رجلا بسهم فقتله، قال له نبينا الكريم «هلا فحصت قلبه؟»، وفى رواية «هلا شققت عن قلبه؟»، ليعيش أسامة بن زيد بقية عمره نادما على تسرعه. حتى إذا صدر عن أحد ما يستوجب التساؤل عن صدق إيمانه تأتى قاعدة شرعية فى كتب العقائد والفقه لتنظم الأمر فتقول بالنص «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه
واحد حُمِل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر»، هذه القاعدة الشرعية يؤكدها العالم الجليل محمود شلتوت فى كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة»، عندما يتعرض لموجبات الاتهام بالكفر فيضع شروطا عسيرة لإلصاق التهمة بأحد، ثم يقرر أنها حتى لو ألصقت بأحد فإنها لا تستوجب معاقبته وحسابه لأن حسابه وعقابه موكل لله عز وجل. اقرأ معى هذه المقولة الرائعة لابن عابدين فى «الحاشية» ذلك السفر الفقهى الجليل عندما يقول «لا ينبغى أن يُكَفّر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان فى كفره خلاف ولو كان رواية ضعيفة»، وفى «تحفة الفقهاء» للأحوذى ترد آراء لفقهاء الحنفية والمالكية بأن من خالف هذه القاعدة يتم تفسيقه وتعزيره، أى معاقبته بعقوبة يقدرها قاضى الشرع، بينما يقرر فقهاء الشافعية أن من كفر مسلما ولو لذنبه كفر.
قل لى بالله عليك هل يلتزم أحد من هواة التكفير فى بلادنا بأى من هذه القواعد الشرعية؟ ولماذا يحرصون دائما على مخالفتها وهم يعلمونها؟ إلا إذا كان فى النفوس أغراض وأهواء لا علاقة لها بالإسلام وسماحته، لماذا لا نسمع هذا الكلام يقال من كثير من شيوخ السلفية وأنصارها بقدر ما نسمع عن مسارعتهم إلى التكفير والإخراج من الملة والدعاء على أناس يختلفون معهم فى الرأى، كأنهم كفار مرقوا من الدين. الأهم من ذلك كيف يجرؤ أحد على أن يتهم أحدا بالكفر أو الفسوق أو الخروج عن الملة فى ظرف ساعات يقوم فيها بتطيير إيميل على شبكة الإنترنت، بينما الإمام مالك يقول وقد عرضت عليه مسألة فقهية «اليوم لى عشرون سنة، وأنا أفكر فى هذه المسألة»، ويُروى عن الإمام أحمد بن حنبل قوله «ربما مكثت فى المسألة سنين قبل أن أعتقد فيها شيئا»، ويروى عن الشافعى أنه ظل ثلاثة أيام بلياليها سهران مكدودا يفكر فى مسألة فقهية، هذا والأمر متعلق بمسائل فقهية فما بالك بإصدار أحكام بتكفير أناس وتفسيقهم، يقول الفقيه أبو حصين معلقا على المتسرعين فى إصدار الأحكام «وإن أحدهم ليفتى فى المسألة، لو وردت لعمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر»، انظر «القرآن والسلطان» للأستاذ الكبير فهمى هويدى.
ثم قل لى ماذا ستقول للخواجة إن سألك بأى حق يجرؤ بشر على أن ينسب حكمه ورأيه إلى الله عز وجل دون أن يقرر حقيقة أن آراءه ليست سوى آراء بشرية تجتهد فى تفسير الدين وهو اجتهاد يمكن أن يكون صحيحا أو خاطئا؟ بالطبع احك له عن نبينا الكريم الذى جاء فى الحديث الصحيح أنه نهى الصحابى بريدة الذى أمره على سرية أن يقول للأعداء عندما يحاصرهم إنه ينفذ عليهم حكم الله، وقال له صلى الله عليه وسلم «فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك»، سيدنا عمر بن الخطاب كان كاتبه يكتب بين يديه مرة فكتب «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر»، فنهره وقال له «لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب انظر «إعلام الموقعين عن رب العالمين» الجزء الثانى للعلامة ابن قيم الجوزية. ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصح الصحابى الجليل بعدم نسب حكمه إلى الله هذا وهو يقاتل كفارا ثبت كفرهم، فما بالك بمن يصدر الأحكام وينسبها إلى الله وهى تتعلق بمسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. ويا ليت الأمر اقتصر على التسرع فى إصدار الأحكام بل تجاوز ذلك إلى التعصب والتعدى والتحقير والازدراء مع أن كل ذلك ليس من منهج الإسلام فى شىء، انظر إلى الإمام الجليل الشاطبى فى كتابه العمدة «الاعتصام» وهو يناقش الفرق الضالة والمبتدعة فينقل عن سلفه الجليل أبى حامد الغزالى قوله «أكثر الجهالات إنما رسخت فى قلوب أعوام بتعصب جماعة من جهل أهل الحق، أظهروا الحق فى معرض التحدى والإذلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعى المعاندة والمخالفة، ورسخت فى قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها»، ويعلق الشاطبى على هذه الكلمات الجليلة المستنيرة بكلمات أشد استنارة حيث يقول «هذا هو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية، فالواجب تسكين الثائرة ما قُدِر على ذلك» الاعتصام ص 490.
هل يقال لخواجة أو حتى لعربى قح كلام بعد هذا الكلام الرائع؟ حاشا لله.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire