القاهرة ـ وائل عبد الفتاح: .."في سيارة النقل التي تحمل كل متعلقاتي الباقية.
سألت نفسي: هل فشلت؟ استرجعت شريطاً عمره 50 سنة تقريباً.. وقلت: لا أنا خلصت". ضحك حجازي نصف ضحكة وهو يحكي لنا رحلة العودة من القاهرة الى طنطا.
حجازي هو: احمد ابراهيم حجازي في الاوراق الرسمية.
وهو: "حجازي الرسام" كما يعرفه قراء الصحف والمثقفون ومحترفو السياسة. رسوماته موجودة الآن في كل الصحف التي تبحث عن "تاتش" معارضة للحكومة.. رغم انه اعتزل رسم الكاريكاتير منذ اكثر من عشر سنوات.. وكان خبر اعتزاله "حدثاً سياسياً.. باعتباره اشارة احتجاج من رسام ظل اكثر من 20 سنة يرسم النكتة السياسية في اشهر مجلات القاهرة "روزاليوسف" و"صباح الخير".. وكان واحداً من مدرسة صحافية كاملة أنشأتها ممثلة مسرح شهيرة (فاطمة اليوسف).. ومعها صحافي لامع (محمد التابعي) وكانت تعتمد على الرسم باعتباره اسلوباً صحافياً يؤكد طابع "المشاغبة".
نحن الآن في المسافة من طنطا الى القاهرة.. عم فؤاد معوض صاحب الكتابة الساخرة عن حياة نجوم السينما وراء الكواليس والشهير منذ السبعينات بفرفور.. ومحمد جمعة.. وأنا.. ثلاثة أجيال مختلفة في رحلة الى عالم حجازي.
فرفور كان الوسيط الذي أقنع حجازي باستقبالنا.. كانت له مصلحة في الوساطة.. تلبية نداء الحنين الذي يلعب بقلبه وعقله كثيراً هذه الأيام.. أنه يحن الى أيام زمان.. وفن زمان.. ويحكي عن حجازي متبوعا بكلمة واحدة.. "..ياسلام...."... وحركة من الشفاة تعني التلذذ باسترجاع الصورة الهاربة.
أما جمعة فهو الجيل الاحدث حركته غواية تصوير فنان يرى لوحاته في البيت منذ أن كان في الثامنة.
ثلاث رغبات في رحلة واحدة كنا نبحث فيها عن متعة كاملة.. زيارة حجازي.. والسفر.. وربما قليل من الفطير والعسل والجبنة في الطريق.
هناك قابلنا حجازي بملذات أكثر.. اقلها الفستق.. والبطارخ (قال لي: ".. كل منها إنها مقويات صحافة.."..). وأكثرها حكاياته.. هو الرجل الذي استقبلنا بجلباب رمادي وسيجارة في منتصفها.. وأحضان وقبلات.. رغم انها اول مرة بالنسبة لي أنا وجمعة.
رغم هذه الحميمية شعرت بسور شفاف يحمي به حجازي نفسه.. يختفي خلفه حتى عن أعز الأصدقاء من أيام القاهرة وحتى الآن.. حماية لنفس خجولة.. تخاف من اللمس القاسى.
هذا رغم أنه "مقاتل" في الرسم يستيقظ في السادسة ويذهب الى المجلة قبل السعاة.. ويرسم كأنه في مهمة حربية.. ثم يغادر المجلة قبل أن يأتي أحد من المحررين.. ليبدأ حياته على هواه.
مقاتل.
ترك القاهرة. ويعيش الآن في طنطا. تبدو بدانته ملحوظة. لكن نظرته الحادة تعيدك الى رشاقته الدائمة.. وخفة روحه.. وأولاً وقبل كل شيء الى غرامك به قبل أن تراه.
وهذا كان أمتع ما في الرحلة الى حجازي.
الملك والكمبيوتر
تغير حجازي تماماً بعدما رضخ لصفقة فتح جهاز التسجيل قبل أن نترك بيته بعد سهرة استمرت 7 ساعات.
كان يحكي ويلقي النكات ويطارد القفشات من هنا وهناك.. رفض أن يدور التسجيل.. "ماذا سأقول..؟!.. وهل أفعل مثل النجمات التي يسألها الصحافي: "ما هي عيوبك..".. فتقول: ".. الكرم والصراحة.." (..نضحك ويكمل)...: "..إحنا قاعدين قعدة حلوة.. لماذا ستفسدها بهذا الجهاز..".
هذا التعليق قادنا الى حوار حول التكنولوجيا.. وهل يعرف استخدام الكومبيوتر.. والمحمول.. وكان تعليقه لافتاً: ".. تعرف أن التخلف فيه حاجة فنية برضه.. تخيّل أنك تصور إمراة حديثة الآن.. لن تجد في الصورة سوى واحدة تقف أمام مربع ابيض هو البوتوجاز.. لكن إذهب الى الست في الريف امام الفرن البلدي سترى ثراء في تفاصيله وتصميمه والأشياء التي تستخدمها وملابسها.. و.. صورة ستكون تفاصيلها غنية جداً..".
التخلف أحياناً يكون اكثر فنية.. "حاولت تعلم الكمبيوتر هنا من أقاربي الصغار لكى ألعب معهم ألعاب مثل الفيفا.. احتجت ثلاث ساعات لكي أعرف كيف يمكن أن أضغط على الأزرار.. هم يتعلمون ذلك في خمس دقائق".
"طفل.. كبير".
خرجنا بالتوصيف من حكاية العاب الكومبيوتر.. وتلال الصحف وشرائط الفيديو التي تباع الآن على الأرصفة لأفلام الكاراتيه والعنف والمغامرات الكوميدية.. هل يتابع حجازي ما يحدث في العالم؟ أم يكتفى بملعب عزلته هنا بعيداً عن القاهرة بـ90 كيلومتراً تحيطه الأجيال الجديدة من العائلة.. عرفت أنه يتابع كل ما يكتب.. ويتقصى كل تفصيله.. وله رأي لماح: "..تعرف.. الآن ليست المشكلة فقط في أن رؤساء التحرير لا يملكون موهبة.. لكنهم أراذل..".
ليس رؤساء التحرير فقط.. بل كل الذين يحاصرونك صباح مساء في واجهات الصحف والفضائيات.. أراذل.. لا يتمتعون بخفة دم ولا روح..: "..تخيل كانوا يقولون الملك فاروق فاسد.. وإذا دققت ستجد أن كل فساده أنه يلعب قمار.. ويطارد النساء.. أي أنه رجل يحب الحياة في النهاية.. لكن الفساد هذه الأيام رذل... وجوه اصحابه شرسة... لايعرفون الاستمتاع بمتعة واحدة إلا جمع المال أو سرقته بتعبير أدق..".
يحكي عن يوسف السباعى الذي كانت تنتظره المراهقات هو وإحسان عبد القدوس في مدخل مبنى روز اليوسف.. فقط ليروا كل منهما وهو يصعد الى مكتبه.. ".. هذا يوسف السباعي رمز ثقافة السادات كان ظريفاً وإنسانياً.. فى أول يوم تولى فيه رئاسة التحرير طلبت مقابلته.. قلت له أنا فلان وأريد الموافقة على سلفة 500 جنيه.. اندهش وقال لي أنا لم أعرف بعد ظروف المؤسسة لكنني أستطيع أن أحلها لك بشكل شخصي.. وأمر سكرتيره بأن يمنحني 500 جنيه ويجعلني أوقع على أقساط شهرية حددتها أنا.. حسب ظروفي.. والأعجب أن دهشته زادت عندما بدأت أسدد الأقساط.. لأنه على مايبدو تعوّد ألا تسدد الناس..".
تختلف معه لكن لا يمكن أن تكرهه.. أو تشعر أنه بلا روح أو إنسانية.
الدم الأزرق والدم الكاكي
رغم أن صفقة الكاسيت اقتصرت على 20 دقيقة فقط إلا أنها كانت كفيلة تغيير مزاجه في الكلام. توتره ظهر على السطح. كلامه أصبح خالياً من الحكايات. وإشاراته مسيسة أكثر.
سألته عن نظرته الى لحظات تحول فن الكاريكاتير.
قال: "صلاح جاهين هو الذي أحدث النقلة الحقيقية في الكاريكاتير من الأنماط السائدة الى كاريكاتير اجتماعي يدخل الحياة الشعبية ويرسم ناساً حقيقية مش أنماط مثل المصري أفندي ورفيعة هانم والسبع أفندي وسكران أفندي طينة.. لأنك تعرف أن أسوأ حاجة حتى في المسرح أنك تعمل نمطاً. وكلما خرجت عن النمط يكون الفن أجمل.. ولهذا كان ظهور ناس عادية بحكايات عادية نقلة في الكاريكاتير.. ناس بتشترى ساندويتشات فول أو بتقلي طعمية. صلاح جاهين له الفضل في هذه النقلة.... وكل الرسامين اتعلموا من صلاح جاهين وابتدوا يفهموا أن الكاريكاتير مش مداعبات ولا خفة دم من غير سبب. بدأوا يلتفتوا الى أن الكاريكاتير ممكن يبقى عن ناس عايشين في المجتمع وعندهم مشاكل. وقتها كان رسامون مثل جورج البهجورى وبهاء اهتموا بفكرة الاسلوب كيف يرسم الكاريكاتير. وليسوا كيف يفكرون.لكن صلاح جاهين حرك المسألة وجعل الناس تنتبه الى أن تعمل كاريكاتير اجتماعي بالمعنى الحقيقي. الى أن جاءت الأحداث السياسية الكبرى في مصر بداية من عدوان 56 أي بعد الثورة بأربع سنين ثم بعدها وغيرها 67,. وكان فيه نوع من الغليان السياسي.. عمل كاريكاتيراً سياسياً فكل الناس اشتغلت على فكرة الكاريكاتير الاجتماعي والسياسي على اختلاف المستويات. لكن يبقى صلاح جاهين ألمع هذه المدرسة. بعد سنين اصبح هناك ناس تانية موجودة جنب صلاح جاهين أنا وصلاح الليثى وبهجت عثمان ثم أتى بعد ذلك جيل اصغر مثل جمعة فرحات ورؤوف عياد ودخل في هذه المدرسة تقريباً.... واصبحت "صباح الخير" و"روز اليوسف" منظومة من الشغل السياسي والاجتماعي بنغمات مختلفة. صلاح جاهين.. صلاح الليثي.. زهدي.. إيهاب. ولهذا كان في روز اليوسف حالة توحد.. أضف طبعاً الكتّاب أحمد بهاء الدين وكامل زهيري وفتحي غانم.. كانت حدوتة كبيرة.. وكنت تشعر وأنت تقرأ صباح الخير أو روز بصلة حقيقية بين الناس وبعضها.. مش زي دلوقت بتحس في الجرايد أن الحاجات مخاصمة بعضها.. أو أن الناس بيبعتوا الشغل من برة.. مافيش روح واحدة.. إحنا كنا في فترة جمعت أجيال كثيرة.. زهدي أكبر من صلاح جاهين.. وبهجت عثمان وجورج البهجورى في سن أصغر.. ثم أنا ورجائي ونيس.. أصغر.. لكن كنت تحس إن فيه روح واحدة حاكمة المجلة...".
..عرفت انه تعلم السياسة على يد حسن فؤاد (رسام وصانع صحف وواحد من الآباء الروحيين في الصحافة والثقافة والسياسة).. كان قد قرأ بيرم التونسى أول ما قرأ في طنطا.. لكن حسن فؤاد أعطاه كتاب "مشكلات الفن" من تأليف زعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ.. وكان من المدهش أن يؤلف زعيم مثل ماو تسي كتاباً في الفن "..ربما هذا ما يجعلني أتذكر الكتاب حتى الآن..".. كانت "روزاليوسف" وقتها هي بوصلة اليسار بالمعنى الثقافي قبل السياسي؟ سألت.. وأجاب حجازي: "آه كان فيه الفكرة دي.. وكان المجتمع كله بشكل عام متجهاً الى اليسار.. ليس بمعنى أنه يبقى مجتمعاً شيوعياً.. لكن يسار بمعنى أنه باستمرار مع التقدم.. أنك خارج النظام شوية.. ومع فكرة التقدم. لأن النظام باستمرار عاجبه الوضع الحالي. "روز وصباح.. كان فيهم قلق على المستقبل وعايزين الدنيا أحسن من كده.... الأنظمة باستمرار بتبقى راضية عن الوضع الحالي لأنه لو اتغير هايتغيروا.. روز اليوسف وصباح الخير كانت في هذا الزمن تنادي بفكرة التقدم والتغيير... المجلة كلها.. الرسامون والكتاب.. ولم يكن هناك نغمة نشاز..".
وقال أيضاً: .."الصحافة أيامها كان فيها فكرة الهوى.. أنك بتروح المجلة وإنت فرحان.. عايز تشتغل.. عايز تشوف اللي جنبك بيشتغل إيه.. وفيه حلم كده يخصك بجانب الحلم القومى اللّي كان عند كل الناس.. الذي كان وكأن فيه سكة للوطن.. قدامهم مستقبل وولادهم هايتعلموا ويتخرجوا ويشتغلوا ويتجوزوا... كان فيه حلم الى جانب حلم القومية العربية. هذا الحلم الخرافي الجميل... كان فيه حالة شحن عامة في الصحافة وعلى مستوى الناس في الشارع. كان فيه نوع من الحماس وليس كذب وتدليس. وحتى عندما قال صلاح جاهين في غنوة "..عايزين تماثيل رخام على الترعة وأوبرا..".. كان هذا بصحيح. كنا مصدقين أن ده صحيح حلم فيه شكل الأسطورة شوية أو الخرافة لكن معناه أنه هايحصل تقدم في القرية. لأن القرية هي رمز التقدم.. وكان الحلم الحقيقى بجانب حلم القومية العربية التي لن تتحقق هو "تمدين الريف". ولهذا فالانكسار الحقيقى ليس في أن الحلم ضاع لكن في أنه بعد هذه الثورة "المباركة.." بدلاً من "تمدين الريف" حدث "ترييف المدن.." أصبحت المدن تشبه الارياف بالمعنى القديم.. عشوائيات وزبالة.. ولو حسبت نسبة المناطق العشوائية في القاهرة مثلا ستجدها 80%... هذا الترييف للمدن خلاصة ورمز لما حدث.."
هذا هو التقدم الذي صنعه ضابط بعد ضابط.. الفقراء بدلاً من أن يجلسوا حول طبلية ولمبة كاز.. أصبحوا يلتفون في العشاء حول القنوات الفضائية ويلبسون الجينز.. لكنهم فقراء أيضاً. وما زال سؤالي لم يتغير: ".. ما الذي يجعلنا فقراء جداً؟..".
يقول حجازي: "سافرت الى القاهرة من 50 سنة تقريباً.. وعدت الآن الى طنطا.. إيه اللّي حصل في 50 سنة..؟.. اللّي حصل انه عندنا شيكولاتة ايكا بس.. دلوقت عندنا 200 نوع شيكولاته. التقدم الوحيد في الحاجات الاستهلاكية غير الضرورية.. ده بس التقدم اللّي حصل في خمسين سنة. اليابان اللي بدأت نهضتها معانا عندها الآن تقدم وعندها أيضاً لبان وشيكولاته وبسكويت.. إحنا ما عندناش إلا الشيكولاته والبسكويت والشيبسي. في خمسين سنة لم يحدث شيء. مازالت مفردات الشكوى منذ أيام الملك فاروق كما هي بالضبط.. أي أن الحلم بأن أوضاع الناس تختلف من زمان الى الآن لم يتحقق.. ولم يحصل المواطن المصري على مرتب يكفيه أبداً.. وتسأل نفسك.. إيه التقدم اللي حصل الثورة قامت ليه؟!... فيه حاجة أسوأ. وقت قيام الثورة.. وأنا كنت فرحان جداً مثل معظم المصريين.. وقتها قالوا أن الثورة قامت ضد فساد الحكم.. و..الى اخر المبادئ الستة... قبل الثورة كان اللّي بيدخل الجيش يحتاج الى واسطة.. الآن أيضاً لا أحد يستطيع دخول كلية الشرطة أو الطيران إلا بواسطة.. ورشوة.. ويمكن أيضاً الآن أن نتكلم عن فساد يصل الى عمولات سلاح وفساد في مؤسسات كبيرة جداً... أنا لا أتكلم كلام ضد الثورة.. لكنني أقول بأن الثورة أخفقت في كل ما بشرت به.. شالت ملك فاسد.. وعملت الآن مليون ملك فاسد في مصر.. وبدلاً من الدم الازرق للملوك أصبح فيه الآن دم كاكي أهم بكثير من دم الملوك..".
"حلوة حكاية الدم الكاكي دي..".
كدت أن اقول له..
لكنه فاجئني: ".. كفاية كده تسجيل..".
وبدأت أستعيد الحكايات.
الرسام والأحلام
يحكي حجازي..: ".. اشتغلت مرة 3 اشهر في "الأخبار"... وفى يوم فوجئت بمصطفى أمين يناديني.. وقبل أن أخطو الى المكتب سمعته يضحك بصوت عال.. نظرت إليه فوجدته غارقاً في ضحك متواصل.. ابتسمت وقالي إيه رأيك ترسم جمل.. وفوقه الملك حسين (ملك الاردن).. ونكتب تحتها تعليق: خيبة الأمل راكبة جمل كنا وقتها في أزمة بين عبد الناصر والملك على ما أتذكر.. المهم استمر مصطفى أمين في ضحك اهتز معه وكاد يستلقي على ظهره.. ضحكت أكثر.. وخرجت من مكتبه وهو ينتظر أن أعود الى مكتبه بالرسمة.. لكنني خرجت من مكتبه الى الأسانسير.. الى الشارع ولم أرجع الى "أخبار اليوم" تاني..".
حجازي.. يوضح: ".. رغم هذا مصطفى أمين كان راجل ظريف...موهوب.. يمكن أن تختلف معه.. وكان هو متعود وقتها على أن ينفذ الرسام فكرته.. لأن كان نجم هذه المرحلة في "الأخبار" الرسام الأرمني اللامع صاروخان.. لم يكن يعرف العربي وكان يمكن أن يطلب منه مثلاً أن يرسم سفينة في بحر متلاطم الأمواج ويكتب على البحر.. القومية العربية.. وعلى السفينة.. بريطانيا.. وهكذا..".
لم يكن في خطط حجازي أن يصبح رسام كاريكاتير. كان يحب رسومات عبد السميع في "روز اليوسف" لكنه كان يريد أن يكون رساماً في الصحافة. اكتشف أنه يعرف يرسم من مدرس في مدرسة الأحمدية بطنطا..: ".. لاحظت أنه بيحب يتفرج عليّ وأنا أرسم.. وفي الحصة التالية يصطحب معه مدرسين آخرين.. بدأت أحب اللعبة.. خصوصاً أن المدارس وقتها كانت مهتمة بفكرة النشاط والمواهب... كنت أنا أرسم وصديق لي اسمه إسحاق قلادة.. يكتب روايات.. لكن روايات من الأنواع الضخمة.. لم يكن يكفيه كراسة واحدة.. وكان يضطر الى تدبيس أكثر من كراسة لتكفي رواية واحدة تفوق ملحمة "الحرب والسلام".. صديقي كان يعتبر نفسه أديباً مهماً.. وعندما اقترح عليه أن يكتب قصة قصيرة يقول لي يا راجل عيب دي القصص القصيرة دي.. قلة قيمة..".
إسحاق قلادة سيكون بطل حكايات كثيرة مع حجازي.. لكن قبلها لا بد أن نرى كيف كان يعيش حجازي الشاب الذي عبر المراهقة قبل سنوات.. وقرر وهو في الثامنة عشرة أن يترك طنطا قبل امتحان شهادة التوجيهية (أي الثانوية العامة بمصطلحات أول الخمسينات) بأيام ليصبح رساماً كبيراً في القاهرة: "...لم أكن اعرف من أين يأتي هذا اليقين... كنت أتصور أن الأبواب ستفتح لي فوراً... وسأكون رساماً.. تركت رسالة لعائلتي قلت لهم فيها أنني أريد تحمل مسؤولية نفسي..".
حجازي هو واحد من بين 11 طفلاً. أبوه سائق قطار. وبيته على ضفاف شريط السكة الحديد في كفر العجيزى بطنطا. في هذه الأماكن تبدأ التجمعات ببيت أو اثنين للعاملين في السكة الحديد. بعد ذلك تتكاثر البيوت حولها بشكل سرطانى تصبح بعده مركزاً سرياً لمتع الفقراء البعيدة عن أعين البوليس والناس المستريحة.
هناك تعلم حجازي البحث عن متع الحياة وسط ركام الحياة التعيسة... ورأى وعرف كيف تعيش فقيراً.. تأكل على طبلية.. فى إضاءة لمبة كاز.. وفى بيت مزدحم بأحلام ورغبات 13 شخصاً.
كانت الرسالة واضحة: لا أتحمل أن أكون عبئاً. أرى أن أبدأ الآن حياتي ولا أنتظر حتى أدخل كلية الفنون الجميلة. هو مولود في 1936,. والآن الثورة عمرها عامان.. والأحلام تفتح أبوابها ونوافذها.. قال لإسحاق قلادة..: "غداً سأسافر للقاهرة..".
إسحاق قال له: ".. وأنا معك..".
عائلة إسحاق كانت تستطيع أن تصرف على بقية مراحل تعليمه.. لكن "نداهة" القاهرة نادته مع صديق عرف معه مغامرات المراهقة في عالم البنات والحب... وسحرهما معاً عالم الأدب والفن.
..كانت الصدمة الأولى في "روز اليوسف".. يحكي حجازي: "..سألت البواب عن إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وعبد السميع... قال لي: كلهم فوق اطلعلهم.. لم يطلب بطاقتي ولم تكن هناك بوابة إلكترونية تمر عبرها مثل الآن.. صعدت.. لكنهم قالوا لي نحن نريد كاريكاتير.. لا نحتاج رسوم.. كان معي وقتها رسوم تعبيرية وبوتريهات لمصطفى كامل وعرابي... لم أكن مهتماً بالكاريكاتير.. عدت الى اللوكاندة.. كانت في القللي وندفع لها أنا وإسحاق جنيهاً في اليوم.. واليوم انتهت الثلاث جنيهات التي كانت معنا.. وسنضطر الى النوم في الحدائق العامة... نمنا على ورق الجرايد.. ومنه التقطت طريقة رسم الكاريكاتير ونفذت أكثر من رسمة وحملتها معي وذهبت أنا وإسحاق الى دار التحرير.. كنت مراهقاً وملابسي غير مكوية لأنني أنام بها في الشارع.. الحارس أوصلني الى باب مكتب سامى داوود رئيس تحرير مجلة التحرير.. الذي كان مشغولاً لكنه رأى رسوماتي ولا أعرف لماذا ربّت على كتفي. ربما أكون صعبت عليه.. وأخذني من يدي الى مكتب آخر.. وهناك كان الفنان حسن فؤاد.. تركني معه.. وبعدما رأى الرسومات ربّت على كتفي هو الآخر.. فأشرت الى إسحاق وملاحمه... فقال لي نحن لا نحتاج الآن الى كتاب.. نحتاج رسامين.. وأنت موهوب.. سأعينك هنا بمرتب 10 جنيهات.. لكن هذه العشرة جنيهات لك انت وإسحاق.. وليست لك وحدك..".
ابتسمنا.. وهز "فرفور" رأسه وهو ينظر الى حجازي: "..شفت الزمن..".
أنا.. والموت
فرفور كان في حالة عاطفية. حنين الى "زمن جميل"... كنت مندهشاً من فكرة العودة الى طنطا.. ومعجباً بها في الوقت نفسه.. أعاد علينا وأمام حجازي هذه المرة حكاية صاحب العمارة الذي وجد حجازي أمامه يسلمه مفاتيح شقته (بالمنيل...) ويقول له: اتفضل.. فسأله صاحب العمارة: ".. كده من غير فلوس.. فقال له حجازي:.. وهل أخدت مني فلوس عندما أجرتها منك.. حتى آخذ منك فلوس الآن..".
يختم فرفور الحكاية: "..شفت قد إيه الراجل ده جميل.. حد يعمل كده في الزمان ده..".
ويبدو أن حجازي كان يتابع الحكاية كأنه ليس بطلها.
وفوجئ بسؤال مباغت:.. "إنت ما اتجوزتش ليه..؟".
ضحك: "..أنا أتجوزت".
وأكمل: "...في أول مرة اكتشفت صعوبة أن تحب امراة.. ثم تصحو في الصباح تجدها مازالت في البيت.. كنت مندهشاً.. وربما لم أتحمل الوضع.. فى مرة ثانية كانت الزوجة تقول لي هاترجع إمتى.. فأقول لها: بعد الظهر.. وفعلاً أرجع بعد الظهر لكن بعد 5 أيام.. أنام فيها في بانسيون"..
يحب حجازي النساء. ولا يخلو حديثه من قفشة هنا أو إشارة الى فتنة امراة أو المتعة المختفية في ثناياها.
لكنه يحب حريته.
يتحرر حتى من الرسم. لا يترك الرسمة معه أكثر من الفترة اللازمة لإرسالها الى المطبعة أو الى البريد.. لا يتحمل لوحاته معلقة على الحائط.. وفى بيته بطنطا لم تكن سوى أعمال على الحرير للفنانة شلبية ابراهيم.. ولوحة لفنان سوري رسم فيها أبو زيد الهلالي.. وصورته عندما كان طفلاً...: "..شفتوا الصورة عاملة إزاي.. شفتوا أنا مخضوض قد إيه.. القميص ده كان بتاع أبويا ودابت ياقته.. ولم يكن هناك أفضل منه لاتصور صورة شهادة الثقافة..".
سخرية.. من نوع خاص.
تتبعتها في رده على السؤال الذي يبدو أنه تعود عليه: "..رجعت ليه لطنطا..".
"..وأعمل إيه في القاهرة.. هنا زي هناك.. إيه تفرق قعدتنا هنا عن قعدتنا في القاهرة.. أنا اكتشفت أنني خلصت اللّي عندي.. أيوه كل ما كنت أرسم أحس إنّي رسمت الرسمة دي قبل كده.. 50 سنة بنعيد في القضايا نفسها.. البطالة والفقر والقهر.. نفس المشاكل.. ونفس القضايا حتى بالنسبة لإسرائيل العرب لسّه بيدينوا نواياها العدوانية.. مازالوا يقولون أنها نوايا... والمسائل بتتكرر من أول الملك فاروق الضابط اللّي عمل الثورة وحتى الضابط الموجود دلوقت.. ماذا حدث؟ مجتمع راكد.. قضايا لا تحل.."
أسال السؤال بصيغة أخرى: "..هل اعتزالك لرسم الكاريكاتير كان نوعاً من الاحباط.. أو الاحتجاج"..
فيقول: ".. لا أنا بطلت كاريكاتير علشان خلصت الحبة بتوعي.. ولأني ما اعرفش أعمل حاجة تاني.. والرسم أكل عيشي اخترت أن أرسم للأطفال.. أولاً لأن رسم الأطفال يتعلق بالمستقبل.. والأنظمة الديكتاتورية تسمح لك بالاهتمام بالماضي والمستقبل.. لكن إذا تحدثت عن الحاضر.. تاكلك... ثانياً كل رسم للأطفال هايكون فيه عصافير وشجر وروح جميلة ممكن ترسمها.. لكن هارسم الحاجات نفسها التي بتترسم من أيام الملك.. لا أستطيع أن أكرر نفسي..".
يتذكر حجازي حكاية المخبر الصحافي الذي عينه إحسان عبد القدوس في "روز اليوسف".. وكان يمنحه أموالاً يلعب بها القمار مع يوسف وهبي وغيره من طبقة مدمني مغامرة اللعب بالمال.. كانت مهمته أن يحصل على أخبار وكواليس المجتمع المخملي كما كانوا يسمونه.. كان يرجع الى المجلة في الصباح عندما أكون أنا قادماً إليها.. في مرة ظل يفرغ ما في جيبه من أموال كسبها في سهرته.. ويقول لي انظر من الشباك.. فأجد سيارة فارهة تقف بشموخ امام الباب.. فيقول: كسبتها امبارح.. في يوم آخر يعود مفلساً تماماً.. المهم أنه في يوم تأميم الصحافة.. وصل المكلف بإبلاغنا بالقرار واجتمع معنا.. كان صاحبنا عائداً لتوه وأفرغ مكاسب الليلة في ادراج المكتب... وفي وسط كلام عن العهد الجديد الذي سيكون بعد التأميم.. ووسط مخاوفنا مما سيحدث عندما نصبح في يد دولة العسكر.. لم يكن هو مهتماً إلا بالأموال.. كان ينظر إليها بين حين وآخر.. يخاف أن يشملها قرار التأميم ويفاجأ بأنها أصبحت من أملاك الدولة..".
ضحكنا وأكمل فرفور حكاية مخبر السهرات المخملية: "..تعرف انني أراه حتى الآن.. يسير في الشارع وهو يحمل المنفضة التي تقتل الذباب.. يظل طوال الوقت يطارد الذباب.. تعرف حكايته مع زوجته.. أعتقد انها تخونه. ومن يومها يعتقد أن كل النساء ذباب.. ومع كل ذبابة يقتل زوجته..".
يعود حجازي مرة أخرى الى الحديث عن النساء: ".. تعرف أن في الرجل نذالة ممتدة المفعول.. يريد أن يحب ويجري بعيداً.. لكن المرأة تريد ان تصنع بيتاً.. وأولاداً..".
"لهذا عدت الى طنطا تبحث عن عائلة..؟".
ابتسامته هذه المرة كانت أكثر غرابة: ".. تعرف أن عائلتنا تحترم الموت كالفراعنة.. وأعتقد أن هذه عادة الفلاحين في مصر حتى الآن.. أقاربي من الشباب عندما عرفوا أنني سأرجع طنطا قالوا لي: بركة يا خالي إنك تموت وسطينا.. لم يقولوا تعيش.. قالوا تموت.. وربما هذا هو المهم بالنسبة لهم..".
vendredi 28 octobre 2011
من هو الرسام الرائع حجازى
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire