الوضع فى مصر هذه الأيام يشبه حريقا اندلع فى بيت وبدلا من أن يسارع الجيران لإطفاء الحريق المشتعل فى جنباته قرر واحد منهم أن يدخل ليأخذ النجفة، وجار آخر قفز من النافذة بمساعدة آخرين ليحصل على كنبة الأنتريه، وواحد عينه على التليفزيون حمله وخرج، وجيران تجمعوا حول حلل المطبخ يتنافسون على الفوز بها، بينما الحريق يتسع ويتمدد…
المجلس العسكرى هنا لا يملك خبرة رجل الإطفاء ليخمد النيران، ولا هو يملك قدرة الشرطى ليقبض على الجيران، فأخذ يضرب الجيران بخراطيم المياه، ويطفئ النار بأن يلعن الذى أشعلها!
الحاصل أن مصر قد ثارت فعلا بفضل حضارتها، نعم حضارة المواطن المصرى التى تسرى فى شرايينه ووجدانه وتظهر كالشهاب اللامع والبرق الخاطف فى لحظات تعيد المصرى إلى القمة التى يجلس عليها منذ بدء التاريخ، بل وقبل أن يعرف التاريخ نفسه أنه بدأ، وهى الحضارة التى تجعله فى ثمانية عشر يوما يعطى درسا للدنيا فى عظمة المصرى حين يقرر أن يكون عظيما.
فى اليوم التاسع عشر عاد المصرى إلى واقعه وإلى عقله!
تصرف المصريون فى الثورة بحضارتهم وفطريتهم وجينات التاريخ ووجدانهم السوىّ السليم الناصع، ولكنهم تصرفوا بعدها طبقا لما يمليه عليهم عقلهم.
والعقل لديه مشكلة تراكمت منذ سنين طويلة كانت أبرزها ثلاثينية مبارك!
ما الذى جرى بالضبط؟
أبدًا، الطالب المصرى لم يعد يذاكر المنهج بل صار يحفظه، ثم انتقل إلى أنه لا يذاكر ولا يحفظ المنهج بل الملخص، ثم تحول من حفظ وصم الملخص إلى الأسئلة والأجوبة النموذجية فلم يعد يشغل باله بالتفاصيل ولا الأسباب ولا الصورة العامة ولا يفكر فى الأصول والجذور، بل جرى على طول إلى سين وجيم بلا تعب للدماغ، ثم اتنيّل أكثر وانحدر أعمق وبدأ يحفظ نماذج الامتحانات، فانكمش العقل فى الوقت الذى زادت فيه المجاميع فى الثانوية وأصبحت هناك درجات فوق المئة فى المئة، تفتت العقل وصار مخزنا للتلخيص والحفظ والصم ودلق الإجابات الجاهزة.
وهذا ما نحصده الآن من كل فئات المجتمع، ولو ركزت قليلا -على عكس مصر كلها الآن فهى فى حالة عدم تركيز طوعية لا إرادية- ستجد أن المشكلات والصراعات والتوترات تأخذ مصر من فوق لتحت، يعنى من الطبقات العليا المرفهة والمتعلمة النخبوية من مهن كالقضاة والمحامين والصحفيين والأطباء والمعلمين، حتى الموظفين الصغار وأمناء الشرطة وباعة الأرصفة وخاطفى الشقق الفاضية.
بمعنى أن المصاب فينا ليس مقتصرا على فئة أو ثقافة معينة، بل كلنا مضروبون بذات المرض!
ماذا يعنى هذا؟
يعنى مشكلة فى العقل لا فى الواقع المعيش ولا الظروف المحيطة.
عندنا مشكلة فى التحصيل: المصريون الآن لا يبذلون جهدا فى تحصيل معلومات وبيانات وأحداث ووقائع لفهم ما يجرى للفئة التى ينتمون إليها أو المهنة التى يعملون بها أو الحياة السياسية أو الوضع الاجتماعى أو الظرف الاقتصادى، إن لم يكن كل فإن معظم المصريين وأولهم نخبتهم السياسية يعتمدون على السماعى والشفوى ولا يقرؤون ولا يذاكرون ما هم فيه، ثم الجميع يثرثر ويلغو دون أن يملك معلومات أساسية عن أى حاجة يرددها، ثم إننا جميعا نتحدث بمواجعنا وعواطفنا وبغضبنا، لا بوعى من يمتلك معلومات وحججا وأسانيد.
عندنا مشكلة فى التركيز: لا أحد يركز فى موضع واحد بعينه أو قضية محددة، ثم هو لا يسمع بتركيز، بل يخطف كلمتين من هنا أو هناك، ولا ينتبه بتركيز، بل مشاعره قبل عقله وغضبه قبل وعيه ومن ثم يسمع إجابات عن أسئلته لكنه لا يسمعها إطلاقا لأنه لا يركز فيها ولا يتأملها، ولهذا نحن جميعا نعيد فى الكلام ونزيده من أول الثورى المتحمس إلى المتفزلك المتحذلق، من المتظاهر من أجل راتبه إلى المتظاهر من أجل وظيفته، من السياسى الذى يطالب بجدول زمنى لنقل السلطة إلى المجلس المطلوب منه نقل السلطة، غياب التركيز يُفقِد الحوار أى أهمية، وبالطبع أى نتيجة.
عندنا مشكلة فى الفرز: الناس لا تجيد الفرز بين الصح والخطأ، بين المعلومة والرأى، بين من معك ومن ضدك، بين الحقيقة والكذب، بين المحترم والواطى، بين الأصيل والخبيث، بين الأصل والفرع، بين الثانوى والرئيسى، بين الضرورات والاضطراريات… من هنا كل حاجة مشوشة، حيث إن الناس لا تحصيل ولا تركيز ولا فرز، بل وأكثر من ذلك لدينا عصيان على المعرفة وإصرار على الفرز المتعصب، فكل ما تكرهه خطأ وكل من تكرهه يقول خطأ وكل من تحبه تكرهه لو قال ما تكره!
عندنا مشكلة فى بناء الرأى: مع ما سبق من مشكلات، يبقى قطعا تتبعها مشكلة أعمق فى تكوين وبناء الرأى، فالرأى غير مبنى على قواعد سليمة ولا معلومات صحيحة ولا اختيارات ثابتة ومعرفة عدوك من حبيبك، مصلحتك من ضررك.
بالتأكيد يبقى عندنا مشكلة فى اتخاذ القرار: مع كل المشكلات السابقة ابقى قابلنى لو كان قرارنا صحيحا فى معظم ما نعيشه وأغلب ما نواجهه.
هذه المشكلات ترتع فى بلدنا الآن، وعلى كل المستويات، تتكاثر كل لحظة مع شرائح المجتمع التى تطلب ما تعتقده حقوقها وتدافع عما تراه مصالحها، وتتضخم بالقطع عند الفئة السياسية (مجلس وحكومة وأحزاب وتيارات سياسية وإعلام) التى أصابت مصر بنكبة حقيقية فى المرحلة الانتقالية جعلتها هى الأسوأ فى كل مراحل الانتقال التى تنقلت بينها مصر عبر تاريخها!
طيب نعمل إيه بالصلاة على النبى؟
أولا نصلى ونسلم عليه وعلى آله، ثم نقتنع بأن عندنا مشكلة، ولنُسَمِّها مثلا «غياب العقلية النقدية»، صحيح قدامنا سنين على علاج هذه المشكلة، لكن يمكن استخدام مَراهم لتسكينها واحتواء آثارها الآن لحين العلاج الشافى بإذن الله!
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire