هذا الحوار النادر مع فنان الكاريكاتير حجازى أجراه الزميل رشاد كامل فى أواخر الثمانينيات ونشره عندما تولى رئاسة التحرير فى 5 سبتمبر 2003
لا يحتاج الفنان الكبير «حجازى» إلى بضعة سطور تقليدية كمقدمة للكلام معه أو عنه! وريشة الفنان «حجازى» واحدة من أبسط وأعمق وأجمل وأذكى الريشات فى عالم الكاريكاتير المصرى والعربى.
كل مطبوعة مصرية أو عربية منحها «حجازى» رسوماته العبقرية كانت بمثابة القنديل الذى يضىء عتمة الصفحات بالألوان المبهجة والضحكات الطالعة من أعماق القلب.
فجأة قرر الفنان حجازى اعتزال الرسم والكاريكاتير، وترك القاهرة عائدا إلى «طنطا».حيث يعيش الآن بعيدا عن الصخب الصحفى والسياسى والإنسانى أيضا.
استقال «حجازى» من الكاريكاتير، لكن الكاريكاتير الذى أبدعه «حجازى» طيلة نصف قرن لا يعتزل ولا يستقيل!
ريشة «حجازى» صالت وجالت فوق صفحات «صباح الخير»، ومنحت صفحاتها ابتسامات ذكية صافية منذ أعدادها الأولى وحتى سنوات قريبة مضت!
نحن لا نعترف باستقالة «حجازى» أو اعتزاله، فلايزال إبداعه يملأ الدنيا والصفحات بالجمال. وهذه صفحات من حوار طويل أجريته معه ذات عام مضى، ولا أدرى سبب عدم نشره وقتها.
؟ قلت: نعود للبدايات الأولى؟!
- قبل المجىء للقاهرة كنت أعيش فى مدينة «طنطا» مع الأسرة وقتها كنت لا أزال طالبا فى مرحلة الدراسة الثانوية وكان أكثر ما يبهجنى فى المدرسة هو حصص النشاط.. كان ملحقا بالمدرسة فناء كبير نمارس فيه بحق التربية الرياضية، أيضا كان بالمدرسة فريق تمثيل وآخر للخطابة والصحافة والرسم.
فى تلك الأيام أحسست باحترام حقيقى للعلم والتعليم، وشعرت بامتنان عميق واحترام أعمق لهؤلاء المدرسين الذين جعلونى أحب حصة اللغة العربية والقراءة.. كذلك فإن مدرس التربية الفنية جعلنى أحب الرسم بشكل غير عادى.. فى نفس هذه الفترة كنا مجموعة من الشبان لها محاولات فى الرسم والكتابة وأذكر أننا كنا نطبع ونصدر كتبا تتضمن هذه المحاولات.
عندما كنت فى «طنطا» تفجرت قضية الأسلحة الفاسدة على صفحات مجلة «روزاليوسف».. فكنت أقرأ مقالات إحسان عبدالقدوس عنها.. فى نفس الوقت كنت أرى وأشاهد ما يرسمه كل من الفنان صاروخان ورخا وعبدالسميع.
رسوم «رخا» كنت أنبسط منها كرسم وألوان.. ولكن لأنى تربيت وعشت وسط ظروف فقر رهيب، كانت فكرة السياسة تشغلنى أكثر وتدفع فى داخلى بعشرات التساؤلات حول الفقراء والفقر، وهنا أقول إن كاريكاتير عبدالسميع على صفحات «روزاليوسف» هو الذى هزنى وحركنى، فقد كانت رسومه عن الملك فاروق والحذاء الذى يقبله الوزراء شيئا غير عادى.. والذى جذبنى بشكل محدد لما كان يرسمه فى تلك الأيام أنه كان يتصدى لقضية حقيقية، وهى فساد الملك والنظام والاحتلال، وتواطؤ الكل ضد الشعب، وضرورة أن يحدث تغيير جذرى.
ربما فى تلك الفترة بالضبط كنت قد اتخذت قرارى بالرحيل إلى القاهرة، وكان حلمى المستحيل وقتها هو العمل رساما. وبالتحديد فى «روزاليوسف».
الكتابة بالكاريكاتير!
؟ قلت للفنان «حجازى»: روى لى الأستاذ حسن فؤاد رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» السابق أنه استقبلك بمجرد وصولك من محطة باب الحديد قادما من طنطا، وكان وقتها يشرف على الإخراج الفنى لمجلة «التحرير» التى أصدرتها الثورة ويرأس تحريرها الأستاذ أحمد حمروش، وأنه كان يكلفك برسم بعض «الموتيفات الصغيرة».
- قال الفنان «حجازى»: هذا صحيح.. وأذكر أيضا أنه خلال فترة بسيطة تتابعت على رئاسة مجلة «التحرير» أسماء كثيرة من بينها ثروت عكاشة، سامى داود، أحمد قاسم جودة، على الدالى، وكان حسن فؤاد مسئولا عن تطوير المجلة، فى تلك الفترة كنت أرسم حاجات بسيطة، ولم يكن عندى تكليف ما بالرسم، ولكنى كنت أحضر يوميا للمجلة، وبعد فترة ترك حسن فؤاد مجلة «التحرير» وذهب إلى «روزاليوسف» لإصدار مجلة «صباح الخير» كان ذلك عام 1956، وأنا لا أذكر بالضبط ظروف ذهابى للعمل فى مجلة «صباح الخير»، ولكنى مازلت أذكر أن حسن فؤاد طلبنى ثم قدمنى لكل من أحمد بهاء الدين رئيس تحرير «صباح الخير» وإحسان عبدالقدوس اللذين قدمانى بدورهما إلى السيدة «روزاليوسف» ثم اتعينت.
؟ قلت للفنان «حجازى»: منذ ذلك التاريخ تعاملت مع عشرات الأسماء الفكرية والصحفية اللامعة، تولت رئاسة تحرير «صباح الخير» مثل: إحسان عبدالقدوس، أحمد بهاء الدين، فتحى غانم، صلاح جاهين، محمود السعدنى، حسن فؤاد، لويس جريس.. ما الذى يميز كلا منهم كرئيس تحرير يتعامل معك كرسام كاريكاتير؟
- بحسم قال الفنان «حجازى»: كل هذه الأسماء التى ذكرتها تمتلك ميزة رئيسية وهى القدرة على تجميع الناس حولهم وتفهمهم، وكل هؤلاء يؤمنون تماما بمجرد أن يدخلوا باب مبنى «روزاليوسف» أن الكاريكاتير شىء مهم جدا فى تلك المؤسسة بصرف النظر عن الضغوط التى يواجهونها أو يتعرضون لها بسببه!
فمثلا كنت أرسم كاريكاتيرا ما، فكان د. عبدالقادر حاتم يكلم إحسان عبدالقدوس عن هذا الكاريكاتير فأجد إحسان عبدالقدوس غير ثائر على أو غضبان منى، بالعكس كان موقفه يتسم بالود الشديد، بل إنه يبقى زعلان مثلا أن هذا الكاريكاتير تسبب فى هذه «الدوشة» أو «الزيطة» إنما عمره ما كان ضد الكاريكاتير أو ضدى أنا.
شىء آخر مهم وهو أن الفكرة الرئيسية التى بنيت عليها مؤسسة «روزاليوسف» أنها مؤسسة رأى فالمقالة رأى.. والخبر يحوى وجهة نظر.. والكاريكاتير رأى كذلك، والذى حدث أن التغييرات التى حصلت وأدت إلى انحطاط فكرة الرأى فى «روزاليوسف» ليست نتيجة أن الناس لا تفهم الكاريكاتير ودوره أى أنها تفهمه وتفهم دوره .. لا.. ولكن كانت هناك ضغوط رقابية أو حكومية هى التى حدت من قدرتهم.
؟ سألته: هل تحدث مساومات بينك وبين رئيس التحرير حول مضمون ما ترسمه؟!
- قال: علاقتى برئيس التحرير هى دائما علاقة غير مباشرة.. بمعنى أننى أرسم دون ضغط منه أو خوف من جهة ما.. فإذا جاء رئيس التحرير وأحس بأن هذا الكاريكاتير سيسبب له مشاكل، فهو يعلم أننى لن أغير كلمة فيه.. ولكنه بحكم مسئوليته، أو بحكم الضغوط الواقعة عليه سواء من الحكومة أو الرقابة فمن حقه ألا ينشر لى ما أرسمه.. ولا يزعجنى إطلاقا أن أرسم عشرين رسماً كاريكاتيريا مثلا فلا ينشر منها شىء.. فالنشر من عدمه ليس قضيتى.. وكل من تعاملت معهم من رؤساء التحرير يفهمون تماما هذه المسألة.. وكما قلت أنا لا أغضب أو أزعل من أى رئيس تحرير فى أنه لا ينشر لى ما أرسمه.. لأن هناك ظروفا تضغط عليه تجعله يفعل ذلك، أما بالنسبة لى فأنا لا أسمح مطلقا بأى ظروف أن تضغط علىَّ ربما لأننى حر أكثر، ولست مسئولا.. إننى أعبر عن رأيى فى رسم ثم أمشى! يمكن لو كنت رئيس تحرير أو رقيبا كان قد اختلف الأمر.
؟ قلت للفنان حجازى: بعض رسامى الكاريكاتير لا يتضايق إذا رسم عشرة رسوم كاريكاتورية وقام رئيس التحرير بوضع تعليقات غير التى كتبها الرسام؟!
- ابتسم ثم قال بهدوء: من المحتمل أن يكون هذا الرسام فى الأساس ليس مهتما بقضية.. ولكنه فقط مهتم بمسألة النشر وحسب، النشر ليس قضيتى على الإطلاق وليس اهتمامى فى المحل الأول، إننى أرسم ما أفكر فيه بينى وبين نفسى بشكل صادق تماما.. فأنا مثلا لا أقول فى المساء آراء ثورية وفى الصباح أنسى ما قلته.. وأرسم رأى تانى.. مفيش عندى الحكاية دى.. لأنى زى ما قلت أنا لست رئيس تحرير.. أنا أكثر حرية.
؟ ضحكت قبل أن أقول: سمعت بأذنى مرة أحد رؤساء التحرير يقول لرسام كاريكاتير: عاوزينك ترسم حاجات لطيفة كده.. بنات حلوة.. وستات دمها خفيف.. وبلاش الكاريكاتير اللى فيه نكد ووجع دماغ.. وسؤالى: ما تصورك لوظيفة الكاريكاتير فى المجتمع؟
- قال بابتسامة ودودة: دون أن تجرجرنى لذكر أسماء، وذكر بطولات وهمية، فى تصورى أن الكاريكاتير مثله مثل أى فن لابد أن يعبر عن قضية، وقضية الكاريكاتير فى نظرى هى التعبير عن السلبيات فى المجتمع.. لذلك تجد المسئولين دائما مفزوعين وزعلانين.. فالكاريكاتير ليست له علاقة بالإيجابيات.. لأن الإيجابيات مسألة طبيعية جدا فى المجتمع.. ولا تذكر!
مثلا لو أن سيدة ترتدى فستانا أنيقا لونه أبيض هذا طبيعى.. أما لو كان هذا الفستان به بقعة حبر مثلا ستجد أن الناس تلتفت إليها.
من هنا فإن الكاريكاتير يركز على العيوب، لذلك تجد كبار المسئولين فى الدولة فى حالة فزع منه لأنه ببساطة يهز من تلك الهيبة المفتعلة فى داخلهم.ويشكك فى المنظرة الاجتماعية التى يعيشون بها ولأجلها!
الكاريكاتير فن مباشر!
؟ وأسأل الفنان حجازى: أتفق معك فى أن للكاريكاتير دورا فى المجتمع.. فهل تتفق معى على أن المثقف العربى بشكل عام والمصرى بشكل خاص لعب دورا من ثلاثة خلال السنوات الأخيرة.. فهو مرة كان ناقدا ومرة كان متفرجا على ما يجرى ومرة كان مبررا لما يجرى؟!
- قال ببساطة: أتفق معك فى هذا التصور!
؟ سألت الفنان حجازى: منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الآن ما الفترة التى شعرت فيها أن الكاريكاتير النقدى لعب دوره كاملا وبدون أدنى تدخل من السلطة أو الرقابة أو رئيس التحرير؟
- قال بعد فترة تأمل: كلها محاولات.. لم تتحقق بشكل مطلق أو كامل.
؟ قلت للفنان حجازى: للكاتب الصحفى الكبير مصطفى أمين رأى محدد يرى أن الكاريكاتير السياسى المصرى كان أقوى ما فى صحافة مصر ثم ضعف وهزل وأصيب بالخرس وأصبح شبيها ببلاغ رسمى مصور! ما رأيك؟
- قال: يمكن الدور الحقيقى الذى لعبه الكاريكاتير بشكل كامل ونقدى مطلق كان أيام الأحزاب.. فى مصر ما قبل الثورة، وعندما قامت الثورة الكل فرح بالثورة.. الناس البسطاء وكذلك المفكرون والكتاب والصحفيون.. وهذه الفترة لم تتضمن نقدا لأشياء تحدث، وكان هناك حماس وتصفيق وإشادة لأشياء ولابد من الاعتراف أن ذلك لم يكن نفاقا!
وفى تصورى أن أخطر فترة فى تاريخ مصر كان من الممكن أن يلعب فيها الكاريكاتير - وأيضا الفكر عموما - دورا نقديا هى الفترة التى تم فيها طرح القرارات الاشتراكية لثورة يوليو! ؟
قلت: ولماذا هذه الفترة بالذات؟
- قال الفنان حجازى: لأن القرارات الاشتراكية التى صدرت فى أوائل سنوات الستينيات نزلت من فوق وكانت عبارة عن «دوجما»، وكانت بالفعل محتاجة من المفكرين تفسيراً وتبسيطاً وشرحاً وتحليلاً لكى تصل عن اقتناع للناس.. ثم نقدها ضمنا أثناء التطبيق، ولكن ما حدث أن الفكرة نفسها - وهى الاشتراكية - غابت عن كل الناس، لا الاشتراكى قدر يتابعها بصحيح، لأنه حتى الاشتراكيين عندما كانوا ينادون بالاشتراكية قبل الثورة كانوا ينادون بها كحلم وشعارات.. أما بعد الثورة فقد كانت الأفكار والقرارات الاشتراكية فى حاجة إلى متابعة حية، وأيضا فى حاجة إلى نوع من الحرية لكى يستطيع الاشتراكى الحقيقى أن يتابع مراحل تحقيق الشعار..
؟ وأنت ماذا كان موقفك؟!
- قال: كانت نسبة كبيرة من الكاريكاتير الذى أرسمه نقدا وتعليقا على ما يحدث فى الجمعيات الزراعية فى الريف أو المدينة، كانت أيضا هناك هوجة اسمها أهل الثقة وأهل الخبرة وأسلوب قيادة العمل فى مرحلة التحول الاشتراكى، فكانت رسومى تتناول هذه الموضوعات.
أيضا فى تلك الفترة ظهرت بدعة اسمها «الثورة المضادة»، ومادام هناك حكم ديكتاتورى وحكم فردى فلابد أن يوجد اختراع ما حتى لا يكون لأحد رأى أو موقف، فإذا انتقد أحد موظفا فى الجمعية التعاونية لأنه سرق مثلا كأنه يهاجم وينتقد الثورة نفسها!
؟ قلت: عندما كانت تشتد فترات الرقابة هل كنت تصمت عن الرسم أم تحاول الإفلات من المأزق؟
- قال الفنان حجازى: فى بعض الفترات كنت أرسم، وكان جزءاً من الكاريكاتير الذى أرسمه لا ينشر، ولكن أيضا كان هناك بعض الأعمال تنشر، لأنها كانت أبسط.. ومش مشكلة أنها تنشر.. ولكن كانت المشكلة الحقيقية هى غياب مناخ الحرية الذى يسمح لك بالتفكير الحر على كل المستويات ويعنى حتى اللى يكتب رواية عاطفية يبدع فيها.
؟ قلت: عاصرت الصحافة قبل وبعد صدور قرارات تنظيمها فى عام 1960، فهل كانت الحرية نسبية فى الحالتين؟
- قال: قبل وبعد تأميم الصحافة مكانش فيه حرية قوى.. وعندما كانت الصحافة مملوكة للأفراد كانت هناك حرية صحفية أكثر من ناحية حرية الحرفة.. يعنى إحسان عبدالقدوس كان يسمح لكاتب اشتراكى بالكتابة فى «روزاليوسف» من منظور حرفى وليس بمعنى وجوده فى المجلة عشان يتكلم عن الاشتراكية.. أو ييجى رئيس تحرير مثلا واهتماماته ليست كروية إنما يجعل غلاف المجلة لاعب كرة مثلا.. إذن صاحب الجريدة كان قلبه على المؤسسة ويفكر من ناحية الحرفية بشكل صح، ولكن مكانش فيه الحرية السياسية الكاملة لا قبل ولا بعد التأميم.
قلت للفنان حجازى: ما رأيك فيما يثار أحيانا من قضايا مثل الفن للفن.. والفن للحياة؟
- قال وهو يضحك: حكاية الفن للفن.. والفن للحياة.. فى تصورى أنها قضايا وهمية لا أكثر ولا أقل.. وخناقات طريفة الهدف منها إيجاد مادة تسلى القراء وتشغلهم فى نفس الوقت، لأننى ببساطة أتصور أن كل شىء للحياة.. السمك للحياة.. الجبنة للحياة.. البطيخ للحياة.. وهكذا.. يعنى الفكرة أساسا مغلوطة.. فإذا سألتنى الآن: السمك هل يظل كما هو سمكا أم أنه من الأفضل أكله.. تبقى بتكذب على نفسك.. لأن السؤال مالوش معنى!
حكايتى مع الأطفال!
؟ قلت للفنان حجازى: ما الذى تذكره من أيام طفولتك فى مدينة السيد البدوى.. مدينة طنطا؟
- قال بلا خجل: كان والدى سائق قطار فى السكة الحديد.. كنا نعيش فى حارة فى طنطا هى خلاصة فقر العالم وبؤسه، وهذا الفقر علمنى أشياء كثيرة للغاية.. أيضا كان الظلم الموجود لا يتصوره مخلوق.. أذكر جيدا أننى كنت أذهب إلى المدرسة الابتدائية بملابس قيمة للغاية، وفى نفس الوقت أجد زملائى يرتدون أفخر وأغلى الملابس.. بل تأتى عربيات أسرهم لاصطحابهم إلى منازلهم عقب انتهاء اليوم المدرسى.. كانوا أطفالا مختلفين عنى وعن أطفال الحارة التى أعيش فيها مع أسرتى.. فى بعض الأحيان كنت أذهب لزيارة أحد زملائى فى منزله فأجد عالما خرافيا كالذى كنا نراه فى الأفلام الأمريكية وقتها.
؟ قلت: حكايتك مع الكتابة والرسم للأطفال؟
قال بود شديد: عندما بدأت كنت أكتب وأرسم فى نفس الوقت لسبب بسيط جدا هو أن معظم قصص الأطفال فى ذلك الوقت كانت مترجمة أو مأخوذة عن ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة.. أيضا كانت كل قصص الأطفال مليئة بأشياء رومانسية مثل الورود.. العصافير.. الحيوانات التى تتكلم، رغم أن هؤلاء الأطفال مثل الكبار يعانون مشاكلهم وعقدهم وهمومهم ولا يعيشون طفولة مرفهة مثل أطفال الخارج، لذلك تجدنى كتبت قصص أطفال تدور حوادثها حول سرقة فى جمعية تعاونية.. ورغم ذلك أحبها الأطفال جدا لأنه كان دمها خفيفا.. وحرصت على أن تتضمن المفردات التى يتعامل فيها الكبار - الذين هم آباء وأمهات هؤلاء الأطفال.
كانت فكرتى باختصار عندما كتبت ورسمت للأطفال أنى جعلت عالم الكبار بهمومه هو عالم الصغار بما يناسبهم من مفردات.
صعوبة الفن بشكل عام تأتى من احتقارنا لذواتنا فنفتش عنها فى الغرب.. والانبهار بالغرب بأمانة شىء فظيع للغاية.. لا مانع من احترامه ولكن لابد من وضعه فى مكانه الصحيح، وأن نبدع الجزء الخاص بنا!
والسبب قمع المرأة!
؟ سألت الفنان حجازى فجأة: لماذا حتى الآن لا توجد رسامة كاريكاتير فى الوطن العربى؟
قال: لسبب بسيط جدا أنها كم مهمل فى هذا العالم العربى.
؟ قلت مستوضحا: كيف؟
قال: فى البداية لابد من الاتفاق أنه إذا كان الرجل العربى مقموعا من السلطة، فإن المرأة مقموعة مرتين، مرة من الرجل ومرة من السلطة، هذا شىء، والشىء الآخر أن المجتمع والرجل يعتبران المرأة شيئا زائدا عن الحاجة والكل يضطهدها ويقمعها بشكل أو بآخر.. بمجرد أن تجىء المرأة للدنيا تظل الأوامر تنهال عليها من الذكور الأب والأشقاء ثم الأم، والكل يساهم فى إعدادها لكى تصبح ست بيت هادئة مكسورة الجناح ومطيعة، وعندما تتزوج فزوجها يعاملها كجارية ودائم الشخط فيها.. وفى مجال العمل تجدها مكبلة أيضا.
أضف إلى هذا كله أنها بطبيعتها فى مواجهة ذلك كله تهرب إلى عوالم الخيال.. فإذا تصادف وعملت فى مجال الرسم تجد رسومها حالمة ومفرداتها فى العصافير والورود والأشجار.. و.. و.. وهى تتفوق لذلك أيضا فى أشغال التريكو والإبرة والكانفاه، لأنها أعمال تحتاج إلى صبر والصبر هو الأب الروحى للمرأة العربية.
؟ قلت: ألمح فى كلامك تعاطفا شديدا وحبا للمرأة.. يؤكد هذا أن رسوماتك الكاريكاتيرية تضع المرأة فى موضع لائق ومحترم؟
قال: لأن المرأة منذ رأيتها فى الحارة التى ولدت فيها وهى مظلومة ومضطهدة.. صحيح أن الظلم والاضطهاد كانا واقعين على الجميع، لكن نصيب المرأة منهما كان أكثر وأكبر.
؟ قلت للفنان حجازى: ذكرتنى كلماتك بما قاله لى الكاتب الصحفى الكبير فتحى غانم عنك عندما يرسم حجازى المرأة فهو يرسمها أنثى ناعمة جدا ولكنه يبرز فيها أجزاء وقحة وفى منتهى القبح والشراسة.. لأن حجازى هو الريشة الطيبة الحانية الناعمة التى تتناول المشاكل بوقاحة وإصرار.. الإصرار لأنها تكرر «التيمة» باستمرار والوقاحة لأن فيها فضحا وقسوة.
ولم يعلق الفنان حجازى سوى بابتسامة!
المهم فى الكاريكاتير «صدق القضية»!
؟ قلت: ذات يوم قررت أن تترك «روزاليوسف» و«صباح الخير» لترسم فى «أخبار اليوم» لماذا؟
قال: انتابتنى حالة من الملل والزهق.. وكان الأستاذ أحمد بهاء الدين قد تولى رئاسة تحرير «أخبار اليوم»، فقررت الذهاب إلى هناك، ومكثت ثلاثة شهور لكن سرعان ما عدت إلى «روزاليوسف» و«صباح الخير».. لم أستمر لسبب بسيط أننى لم أعرف كيف أرسم، ليس فقط لظروف الرقابة، ولكن فى أخبار اليوم وجدت شيئا غريبا لم أعتده أو يخطر على بالى أن هناك من يفكرون لك وأنت تقوم برسم هذه الأفكار.
؟ قلت: ولكن هذه مدرسة أخبار اليوم فى الكاريكاتير.. أن تكون رساما لأفكار الآخرين؟
قال بحسم: ولكنى ضد هذه الفكرة أساسا، لأننى لست حرفيا أو «صنايعى» مهمته الرسم، لأن الأساس عندى أننى أريد أن أعبر عن شىء ولست أريد رسم شىء، وطبعا هناك فرق شاسع بين المفهومين! إننى لدى رأى فى مسألة ما أعبر عنه فى رسم كاريكاتيرى، وليست المسألة بالنسبة لى أن أرسم كاريكاتيرا! فيقال مثلا: يا سلام على الست اللى راسمها حجازى.. أو نسب الرأس لباقى الجسم صحيحة فنية.. أنا مش بارسم لوحة فنية عشان الناس تنبسط منها وتقول الله وتعلقها فى حجرة الصالون مثلا! هذه المسألة ليست قضيتى على الإطلاق!
؟ قلت للفنان حجازى: قال الأستاذ الصحفى الكبير «إحسان عبدالقدوس» إن الرسم الكاريكاتيرى نوعان: نوع يعتمد على الكلام الذى يكتب تحت الصورة، أى أن تكون الفكرة فى اللفظ لا فى الرسم والنوع الثانى يعتمد على الرسم نفسه، أى أن تكون فى الرسم نفسه لا فى الكلام الذى يكتب تحته، بحيث تستطيع أن تصل إلى هذه الفكرة حتى بدون كلام، وأنا أفضل النوع الثانى لأنه الأصل فى الكاريكاتير.. إلى أى حد توافق أو تختلف مع رأى إحسان عبدالقدوس فى الكاريكاتير؟
قال الفنان حجازى: بشكل عام.. أنا مع اللغة الأبسط والمباشرة مع الأسلوب البسيط جدا، لأننى بالدرجة الأولى ليست عندى ميول استعراضية فى الرسم بشكل عام والكاريكاتير بشكل خاص، ولا يكون فى ذهنى عندما أرسم أن أقول مثلا: إنى عاوز أرسم رسم يكسر الدنيا.. ويعقد العالم!
أنا أرسم الكاريكاتير بلغة وخطوط بسيطة تماما كما أدردش وأتكلم مع أصدقائى ببساطة.. والكاريكاتير فى تصورى هو اجتهاد إنسانى بسيط تقول من خلاله رأيك فى الأشياء، قد يكون هذا الرأى صوابا، وقد يكون خطأ.. ولكن فى الحالتين هذا اجتهادى الإنسانى، وهذا شكلى الذى أقدمه للناس، وفى كل الأحوال لا يجب افتعال شىء، لأنه كما أن الافتعال مفسد وضار فى علاقاتك بالبشر، فالافتعال فى الكاريكاتير كذب ودجل يكشفه القارئ بسهولة!
ضحك حجازى وأضاف: لنفترض أن شكلك ومواهبك وإمكانياتك تؤهلك لتكون «أحمد عدوية» فلماذا تصر على أن تكون «خوليو» مثلا؟
وأعود فأقول: إن المهم فى الكاريكاتير هو صدق القضية والرأى الذى يحمله للناس.. وليس مهما أن يكون بدون كلام أو بكلام! ومن حقى احترام رأى الأستاذ إحسان دون إلزامى به! ؟ قلت: ما الذى استفدته من الجيل السابق عليك؟
قال: أستطيع أن أقول إننى من ناحية الشكل استفدت من جميع الرسامين الذين سبقونى فى هذا المجال، ولكن كاريكاتير الفنان عبدالسميع الذى كان يهاجم فيه الملك فاروق هو الذى جعلنى أتأثر بشكل مباشر.. بهرتنى الفكرة نفسها وهى الهجوم على الملك بواسطة الرسم الساخر! بعد ذلك جاء صلاح جاهين وأنا أعتبره فعلا ساهم فى تغيير الكاريكاتير الاجتماعى فى مصر، لأن الكاريكاتير قبله كان يدور فى فلك الشخصيات النمطية التى رسمها الأستاذ رخا مثل «ابن البلد».. «رفيعة هانم».. السبع أفندى».. «سكران باشا طينة».. «الوفدى أفندى».. «حمار أفندى».. «ميمى بيه».. بل إن صلاح جاهين ظل لفترة وعلى صفحات «صباح الخير» ظل يرسم بعض الشخصيات النمطية مثل قهوة النشاط، وقيس وليلى بعد ذلك بدأ يرسم الكاريكاتير الشعبى والاجتماعى وعلى يديه أصبح يطرق أبواب المشاكل الاجتماعية بشكل مستنير، وحدث تطوير للكاريكاتير!
؟قلت بسذاجة: كيف ترسم؟
قال ضاحكا: بالقلم الفلوماستر!
؟ ضحكت وقلت: أقصد كيف يجىء الكاريكاتير؟ الفكرة أولا ثم الرسم أم العكس؟
قال: منذ بدأت رسم الكاريكاتير وحتى الآن لا أفكر فى الرسم كقضية منفصلة عن الرأى الذى أريد أن أقوله، وكل الذى يشغلنى فى حياتى أننى مواطن عربى مصرى بسيط مهتم بأحداث بلاده وعندى رأى أريد قوله.. وعندما أجلس أمام مكتبى لأعمل فإن الكلام والرسم يجيئان فى وقت واحد ولحظة واحدة!
؟ قلت: منذ بدأت ترسم الكاريكاتير فى منتصف الخمسينيات وحتى الآن ما الذى أضفته لحركة الكاريكاتير؟
قال وابتسامة ودودة تجىء مع كلماته: حكاية الإضافة دى محصلتش، وكل الذى حدث معنا جميعا فردا فردا أننا ننتقص من كل شىء له قيمة فى مصر، وليست هناك أيه إضافات بالمرة.. لأن الفن هبط بشكل عام.. القيم انحطت بشكل عام.. وإذا قال أحدهم لك إنه أضاف فلا تصدقه! ومع ذلك كل الناس عملت محاولات، وبعضها محاولات ناجحة.. ولكنها فى النهاية محاولات تجرى فوق مركب يغرق شيئا فشيئا!
؟ سؤالى الأخير للفنان حجازى: معنى كلامك أن الجيل الذى سلمكم راية الكاريكاتير منذ منتصف الخمسينيات وحتى الآن لم تنجحوا فى المحافظة على المستوى الذى وصلوا إليه بهذا الفن؟!
لأول مرة يضحك الفنان الساخر حجازى ويقول:
- أنا شخصيا ما استلمتش أى راية.. وعندك البيت فتش فيه إذا لم تكن تصدقنى! وانتهى الحوار.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire