لويس جريس : لاأعرف بالضبط حقيقة ما حدث؟
ولكنى أقر وأعترف أننى انزعجت كثيرا بمعرفتى أن الإعلامى الكبير يسرى فودة قد علق برنامجه اليومى آخر كلام.
وكما سبق وذكرت فالزميل العزيز يمثل لى زهرة يانعة فى بستان حرية التعبير.
وإننى أشعر بالحزن الشديد تماما مثل حزنى على زهور كثيرة قطفها الموت من بستان الحرية.
وبستان الحرية فى بلدنا زرعناه ونحن نكافح الاحتلال والظلم وسقيناه بدمائنا ونحن نطالب بحرية التعبير وبالتغيير وبالعدالة الاجتماعية، ولن ندع أحدا يدوس بأقدامه على زهور الحرية التى زرعناها يوم 25 يناير 2011.
مهما كانت الأسباب والدافع الذى جعل يسرى فودة يعلق برنامجه آخر كلام فإننى أدعو المصريين الشرفاء الذين يقودون سفينة الوطن لبحث هذا الأمر فورا وعدم إرجائه، وذلك لأن مصر فى حاجة شديدة فى مرحلتها الانتقالية، وهى تبنى نظاما جديدا للحياة المصرية ألا يغلق أحد نافذة من نوافذ حرية التعبير، أو يطفئ طاقة النور التى تضىء للناس طريقهم بمهنية عالية، وانتقاء عاقل ورصين وبروح رياضية تعطى كل ذى حق حقه.
يسرى فودة زهرة من زهور بستان الحرية فى مصر وقطفها جريمة لا تغتفر.
وهذا الأسبوع لم يحرمنا القدر من برنامجه آخر كلام فقط، ولكن قضاء الله شاء أن يحرمنا من ملك توجه القراء على عرش الكتابة لسنين عديدة... الكاتب المبدع وصاحب الجولات الصحفية فى بلاد الله، حمل قلمه وطاف فى بلاد الدنيا، وفى إبداعات الآخرين من أبناء الإنسانية فى كتبهم التى حملت عصارة أفكارهم، وأحلامهم وأحزانهم ورؤاهم.. قرأها بشتى اللغات وأعادها إلى الناطقين باللغة العربية فى أسلوب سهل.. ممتع وشيق.
أنيس منصور يتركنا وهو على وشك أن يحتفل بعامه التسعين وقد ترك للمكتبة العربية ما يقرب من 200 كتاب مليئة بالفكر والفن والإبداع البشرى.
أنيس منصور موسوعة فكرية لا مثيل لها أنهك جسده بالكتابة وعاش بيننا متبسما.. ضاحكا.. ساخرا ومروجا لحق الإنسان فى المعرفة.. وفى سبيل ذلك أنهك جسده حتى الموت..
عرفته عن قرب وعشت معه وعايشته فى رحلتنا إلى موسكو وإلى كوبا ونمنا فى غرفة واحدة بفندق هيلتون كوبا، ولم يكن ينام.. يظل يقرأ أو يكتب طوال الليل وإذا أغمض عينيه فلنصف ساعة أو أقل ثم يستيقظ نشطا، فلا يترك نفسه حائرا بل يستغل يقظته فى القراءة أو الإبداع والكتابة.
وأنيس منصور جرب جميع أنواع الكتابة بما فيها المسرحية، وقد كتب مسرحية لمسرح التليفزيون بعنوان «الأحياء المجاورة» قام بأدائها حمدى غيث وسناء جميل وأخرجها جلال الشرقاوى وياريت التليفزيون المصرى يقدم لنا هذه المسرحية النادرة لأنيس منصور.
رحم الله زميلى وصديقى أنيس منصور وعزائى لزوجته الفاضلة السيدة رجاء حجاج، وابنته التى رعاها بالحب والحنان منى رجب الزميلة والصديقة الغالية.
لست من الذين يؤمنون بالصدف.
بل إننى من الذين يعتقدون أن كل ما يجرى لنا أو حولنا هو من تدبير رب حكيم وعادل، وهى أيضا رسائل علينا أن نقرأها ونفهمها ونعيها.
لماذا اختطف الموت منا أنيس منصور وحجازى فى نفس اليوم وربما فى نفس اللحظة؟ وما الذى يجمع أنيس منصور وحجازى؟
لا أعتقد أن حجازى عرف أنيس منصور شخصيا، ولا أعتقد أن أنيس منصور عرف حجازى شخصيا.
الذى أعرفه أن حجازى قرأ كل ما كتبه أنيس منصور فى الجرائد والمجلات أو فى كتب، فالرسام حجازى بهكذا كنا نناديه قارئ نهم تماما مثل أنيس منصور.. يقرأ جميع الجرائد والمجلات ويشترى ويقرأ كل ما تصدره المكتبة العربية من كتب.
وحجازى تماما مثل أنيس منصور يقرأ بسرعة ويهضمه ولا يهتم باقتناء الكتاب، وأصدقاء حجازى كانوا يأخذون الكتب منه ولا يردونها إليه، ولم يكن يطالبهم بإرجاعها.
وكان لحجازى عادة لا يغيرها يشترى الكتاب ويقرأه فورا ثم يتركه حتى يأتى صديق ويقول له: حجازى أنا هاخد الكتاب ده!
فيضحك ويقول خده!
إن الشىء الذى يربط أنيس منصور الكاتب والرسام حجازى أنهما قارئان لكل ما يقع بين أيديهما من صحف ومجلات أو كتب.
وإذا التقى الاثنان فى عالمنا الآخر فسوف يكتشف كل منهما أنهما تنافسا فى قراءة الكتب وفهمها وبسرعة لايجاريهما فيها أحد!
مات حجازى وأنيس منصور فى يوم واحد.. ومن بعدهما لن تجد الكتب الصادرة قراء مخلصين مثل حجازى وأنيس منصور.
فبموت أنيس منصور وحجازى مات القارئ المخلص للكتاب!!
وليسمح لى القارئ أن أصحبه معى فى رحلة قصيرة يتعرف من خلالها على شخصية مصرية فريدة لا يمكن وصفها أو الحديث عنها بالكلمات فهى أعمق من الكلمات وأكبر من الوصف ولا يستطيع أحد أن يسبر غورها أو يعرف مكنونها.
شخصية فريدة.. نادرة.. لها مواصفاتها ولها أسرارها، وتحيا فى هدوء، يتسلل إلى الحياة ويخرج منها كما لو كان غير موجود، ولكنه بالفعل موجود، وبفكره وبعمله موجود، وتأثيره فى المجتمع الذى يحيط به كبير وفاعل، بل إن أثره كان يهز المنغلقين والمنعزلين وأصحاب الفكر الضيق، وكان سيفا على الفساد فى كل صوره المادية والعاطفية والسياسية.
وكنا نناديه حجازى الرسام، واسمه بالكامل أحمد إبراهيم حجازى جاء إلى دار روزاليوسف التى كانت فى شارع حجازى المتفرع من قصر العينى والمجاور لمجلس الوزراء عام 1956.
شاب فى العشرين من عمره... دخل إلى الدار وروزاليوسف فى ذلك الزمان لم تكن تمنع أحدا من الصعود إلى مكاتبها.
كان الشباب الذين يريدون ممارسة الكتابة أو الرسم يذهبون إلى روزاليوسف ويمارسون هوايتهم، فإذا أعجبت المسئولين عن التحرير رحبوا بهم ونشروا لهم إبداعاتهم.
جاء حجازى الرسام إلى روزاليوسف ولم يكن يعرف أحدا جلس يرسم الكاريكاتير ثم قدمه إلى الأستاذ حسن فؤاد المشرف الفنى للمجلة الوليدة التى بشرت بها فاطمة اليوسف ووضع لها مؤسسها وأول رئيس تحرير لها أحمد بهاء الدين الشعار الذى تحمله حتى اليوم «للقلوب الشابة والعقول المتحررة».
أعجب حسن فؤاد برسومات الشاب القادم من طنطا ولم يتعد العشرين ربيعا، وقام يحمل رسوماته إلى صلاح جاهين، وإلى جمال كامل وإلى إحسان عبدالقدوس وإلى أحمد بهاء الدين، وقام الأربعة إلى حيث يجلس ذلك الشاب الخجول أحمد إبراهيم حجازى، ومنذ ذلك اليوم المشهود وحتى وفاته يجىء الرسام حجازى كل صباح فى السادسة أو السابعة، يجلس إلى مكتبه ويرسم ويرسم ويرسم ثم يترك رسوماته مع الساعى ليقدمها لرئيس التحرير أو مدير التحرير أو سكرتير التحرير.
ومن يريد لقاء حجازى عليه أن يحضر إلى دار روزاليوسف مبكرا أو يتصل به ويمر عليه فى منزله.
كان حجازى غزير الإنتاج وكانت له قاعدة ومبدأ لا يحيد عنهما.
وهذه القاعدة هى أن تقبل رسوماته وتعليقاته كما رسمها وكما كتبها أو لا تنشرها.
حجازى لا يساوم، ولا يتفاوض ولا يناقش أو يسمح لأحد بأن يناقشه فيما فكر فيه ورسمه وكتبه.
وأى رئيس تحرير تعامل مع حجازى عليه أن يقبل ما يقدمه حجازى أو يرفضه، ولكن حجازى لا يسمح لأحد بأن يعدل أو يغير أو يبدل أو يحذف أو يضيف.. القبول التام أو الرفض التام. لا حلول وسط ولا مفاوضة.
وحجازى الرسام إنسان هادئ ورزين ولا تخرج العيبة من فمه إلا إذا حاول أحد أن يتدخل فى حياته.
ذات مرة تولى رئاسة مجلس الإدارة صديق للرئيس السادات وزميل كفاح معه منذ قضية أمين عثمان باشا الشهيرة وهو السيد عبدالعزيز خميس كان الأستاذ خميس رئيسا لتحرير مجلة روزاليوسف ورئيسا لمجلس الإدارة وكان معجبا برسومات حجازى.
وذات صباح اتصل الأستاذ عبدالعزيز خميس بالرسام حجازى وقال له: حجازى انزلى فى مكتبى فضحك حجازى وقال له: طب ما تطلعلى أنت فى مكتبى.
كان مكتب الأستاذ خميس فى الدور الخامس ومكتب الرسام حجازى فى الدور السابع.
ثم أغلق حجازى مكتبه وانصرف.
غضب الأستاذ خميس وأراد أن يعاقب الرسام حجازى فذهبت إلى مكتبه وقلت له: أستاذ خميس أرجوك نسيان هذا الأمر.. لا أحد يستطيع عقاب حجازى الرسام نحن نحتاج إليه وإلى فنه وإلى إبداعه، أما هو فليس فى حاجة إلينا يستطيع أن يكسب أضعاف ما ندفع له هنا، ولكنه يستمر هنا بالمحبة وأن نترك له حريته فى العمل والتعامل.
هذا هو حجازى يا أستاذ خميس.
إنه يتقاضى من روزاليوسف مرتبا يصل إلى 200 جنيه، ولكنه يكسب من خارج روزاليوسف ما يصل إلى خمسة آلاف جنيه شهريا فى رسوماته للأطفال فى مجلات الأطفال بالخليج العربى.
أستاذ خميس لا تحاول معاقبة الفنان حجازى الرسام... إنه هو الذى يمكن أن يعاقبنا بحرمان روزاليوسف وصباح الخير من إبداعاته ورسوماته التى لا يجاريه فيها أحد.
وفعلا تمت تسوية الأمر ولم يلتق حجازى مع الأستاذ خميس حتى مماته.
ويكذب من يقول إنه عرف أو فهم حجازى الرسام.
حجازى عالم خاص فريد ووحيد.
حبه الأول والأخير مصر وفى رأيى المتواضع أن حجازى الرسام هو هرم الكاريكاتير فى مصر وإلى الأسبوع القادم لأروى لكم حكايتى مع الرسام حجازى هرم الكاريكاتير المصرى.
vendredi 28 octobre 2011
حـجـــازى هـرم الكاريكاتـيـر
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire