بقلم د.حسن نافعة ٢/ ١٠/ ٢٠١١
تعرضنا فى مقالات سابقة لبحث حالة الارتباك والقلق التى تخيّم على الساحة المصرية منذ شهور، محاولين رصد مظاهرها وتحليل أسبابها، وأشرنا إلى ظهور فجوة، راحت تتسع تدريجياً، بين تطلعات شعب قام بثورة كبرى ضد نظام فاسد سقط، وممارسات مجلس عسكرى آلت إليه سلطة إدارة شؤون الدولة والمجتمع خلال فترة انتقالية، يفترض أن تكون قصيرة وأن تنتهى بقيام مؤسسات سياسية منتخبة.
فبينما تطلعت قوى الثورة إلى تغيير جذرى يزيل ما تبقى من آثار وسياسات النظام السابق ويضع لبنات نظام ديمقراطى يليق بمصر الثورة - اعتمد المجلس العسكرى نهجاً إصلاحياً لإحداث تغييرات شكلية أو تجميلية لم تمس حتى الآن بنية النظام أو سياساته الرئيسية على الصعيدين الداخلى والخارجى.
كنت واحداً ممن حاولوا التماس العذر للمجلس العسكرى حين راح يتعامل بحذر مع مطالب التغيير، من منطلق أنه ربما تكون لديه خشية مبررة من أن تؤدى المطالب الخاصة باستئصال ما تبقى من النظام القديم إلى هدم بنية الدولة نفسها أو إضعاف جهازها المناعى، غير أنه سرعان ما تبين أن النهج الذى تبناه المجلس العسكرى ربما يكون مدفوعاً بعوامل واعتبارات أخرى غير مجرد الحذر أو الخوف من المجهول.
فقد بدا واضحاً أنه تعمّد إطالة المرحلة الانتقالية بأكثر مما ينبغى، متسبباً بذلك فى إرباك الحياة السياسية، وفى تعميق الانقسامات بين القوى السياسية التى صنعت الثورة، لذا صب سلوكه فى النهاية، وبصرف النظر عن حقيقة الدوافع والنوايا، فى مصلحة القوى التى تسعى للالتفاف على الثورة وإجهاضها، وها هى البلاد تتجه، بعد طول انتظار، لإجراء انتخابات برلمانية ليست بعيدة عن الشبهات ولا تتوافر لها ضمانات كافية تجعلنا نثق فى قدرتها على إفراز برلمان يليق بالثورة المصرية، وذلك لأسباب عدة، أولها: أنها ستجرى فى ظل حالة الطوارئ، ولأنه لا يمكن الاطمئنان إلى نتائج انتخابات تجرى تحت سيف قانون الطوارئ، بصرف النظر عن وجاهة الأسباب التى دعت إلى تفعيله، خصوصاً أن حالة الطوارئ نفسها انتهت بموجب إعلان دستورى يحظر مد العمل بها دون إجراء استفتاء مسبق.
وثانيها: أنها ستجرى قبل أن تستعيد أجهزة الأمن عافيتها ويطمئن الناس إلى حيادها وتصبح فى وضع يسمح لها بمنع محاولات التخريب والبلطجة أثناء الانتخابات. ومن المعروف أن أجهزة أمن النظام السابق كانت هى التى تقود بنفسها عمليات تزوير الانتخابات لصالح الحزب الحاكم باستخدام البلطجية والخارجين على القانون.
وثالثها: أنها ستجرى وفق قانون يُجمع معظم القوى السياسية على رفضه لأسباب عديدة، أهمها:
١- أنه قانون يستلهم أسوأ ما فى نظامى التمثيل الفردى والتمثيل بالقائمة النسبية.
٢- معقد إلى درجة يصعب على الناخب فهمها.
٣- يعيد تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة لم يعتدها الناخب، وصُممت لخدمة من يملكون المال أو النفوذ العائلى أو قوة التنظيم.
ورابعها: أن هذه الانتخابات، وهى أول انتخابات برلمانية بعد الثورة، ستجرى قبل تفعيل قانون الغدر، وربما أيضاً قبل إصدار قانون استقلال القضاء المطروح للنقاش الآن، وبالتالى ستتم فى وقت مازال فلول النظام السابق يتمتعون فيه بحرية كاملة فى العمل ولديهم قدرة كبيرة على التأثير.
يصعب فى الواقع فهم حالة القلق التى تسود الحياة السياسية المصرية فى المرحلة الراهنة ما لم نأخذ فى اعتبارنا أيضاً، إضافة إلى ما تقدم، سلسلة الإجراءات التى اتخذها المجلس العسكرى منفرداً دون التشاور مع الحكومة ولا مع القوى السياسية المختلفة، والتى تعكس سلوكاً غامضاً ليس له من هدف ظاهر سوى العمل على إطالة المرحلة الانتقالية إلى أقصى مدى ممكن. من هذه الإجراءات: ١- تأجيل انتخابات مجلس الشورى إلى نهاية الشهر الأول من العام القادم، مما يعنى تأجيل اختيار اللجنة التى ستتولى وضع الدستور، وبالتالى إطالة الفترة المتوقعة للانتهاء من إعداد الدستور دون مبرر واضح. ٢- رفض الالتزام بموعد محدد لإجراء الانتخابات الرئاسية.
ولأنه ليس من المعروف حتى الآن ما إذا كانت هذه الانتخابات ستجرى قبل الاستفتاء على الدستور الجديد أم بعده، فليس من المتوقع أن يسلم المجلس العسكرى السلطة قبل نهاية شهر مارس من عام ٢٠١٣ بأى حال من الأحوال، والأرجح ألا يتم تسليم السلطة قبل وجود دستور جديد، من ناحية، ورئيس جمهورية منتخب، من ناحية أخرى. ٣- عدم التزام المجلس العسكرى بتشكيل حكومة جديدة عقب انتخابات مجلس الشعب القادم تعكس نتائج هذه الانتخابات.
لا أظن أن المجلس العسكرى كلف نفسه عناء تحليل الصعوبات المحتملة التى سيتعرض لها النظام السياسى فى مصر عقب تشكيل مجلس الشعب القادم، ولأن الفترة المتبقية للمرحلة الانتقالية قد تمتد إلى عام أو أكثر فسوف يتطلب حسن إدارتها درجة عالية من التجانس المؤسسى، وهو شرط يصعب توافره فى هذه المرحلة.
فمن المتوقع أن يظل المجلس العسكرى حريصاً على استمرار الجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وسيصبح مجلس الشعب المنتخب حينئذ أقرب ما يكون إلى البرلمان المجمد منه إلى السلطة التى تستطيع ممارسة صلاحيات تشريعية ورقابية حقيقية، فى الوقت الذى ستبدو فيه الحكومة، خصوصاً إذا استمر تشكيلها الحالى دون تغيير، كزائدة دودية بلا صلاحيات أو وظائف محددة.
أما إذا تقرر تكليف حكومة جديدة فيتعين فى هذه الحالة أن يعكس تشكيلها خريطة القوى السياسية كما عبرت عنها صناديق الاقتراع فى الانتخابات البرلمانية القادمة، وفى هذه الحالة من الطبيعى أن يتقلص دور المجلس العسكرى لتصبح الحكومة هى مركز الثقل الرئيس فى النظام، وهو أمر لابد أن يقاومه المجلس، لذا يبدو أن مصر مقبلة فى جميع الأحوال على أزمة متفاقمة، ما لم يتدارك الجميع الأمر من الآن.
ليس من المستغرب، فى سياق كهذا، أن تزداد الهوة اتساعاً بين الشعب، ممثلاً فى القوى التى صنعت الثورة، وبين الجيش، ممثلا فى المجلس العسكرى الذى آلت إليه السلطة، وألا يجد البعض حرجاً فى المطالبة بالعمل على «استرداد الثورة»، وهو ما قد ينطوى ضمناً على مطالبة بسحب الثقة من المجلس، ولأن هناك إحساساً متنامياً من جانب قطاعات شعبية متزايدة بأن المجلس العسكرى يتصرف باعتباره امتداداً طبيعياً للنظام السابق، وليس باعتباره مؤتمناً على أهداف الثورة، تبدو الأمور كأنها تتجه نحو صدام حتمى، وهو ما يتعين العمل على تجنبه بكل الوسائل الممكنة، خصوصاً أن البعض بدأ يلجأ إلى أسلوب توجيه الإنذارات، ولأن الصدام بين الشعب والجيش لن يكون فى مصلحة أحد، وسيشكل كارثة على الجميع، فأتمنى أن تسعى جميع الأطراف المعنية إلى تدارك الوضع وأن تتمكن من اقتراح الحلول الملائمة للخروج من الأزمة الراهنة.
إن جوهر المأزق الذى يواجهه جميع الأطراف الفاعلة على الساحة فى المرحلة الراهنة لا يكمن فى فقدان الثقة بينها، أو حتى فى غموض نواياها وأهدافها ودوافعها، بقدر ما يكمن فى غياب آليات مؤسسية للتشاور والتنسيق، ولأنها أطراف غير متكافئة القوة فيبدو أنه بات من الصعب الاتفاق على آلية مرضية للتشاور والتنسيق فيما بينها، فالمجلس العسكرى يجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ويتمتع، من ثم، بقوة مطلقة تجعله فى موقف يمكّنه من اتخاذ ما يراه من قرارات ومن إصدار ما يشاء من لوائح وقوانين دون أن يكون ملزماً، من الناحيتين القانونية والسياسية، بالتشاور مع أحد. وقد لاحظ الجميع أن المجلس يتحدث كثيراً عن «الحوار» ويلتقى بمختلف الأطراف دون أن يستمع أو ينصت إلا إلى نفسه.
ولا يستطيع المجلس العسكرى أن يتعلل بانقسام القوى السياسية على نفسها ليبرر انفراده بالرأى والقرار، فقد رأينا كيف ركب المجلس رأسه وصمم على موقفه من قانون انتخاب مجلسى الشعب والشورى رغم إجماع القوى السياسية على رأى مختلف.
ولهذا السبب لا تجد القوى السياسية من وسيلة أخرى للتعبير عن وجهة نظرها سوى التظاهر فى ميدان التحرير أو التهديد بالاعتصام، ولأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة فإن ترشيد عملية اتخاذ القرار فى المرحلة الحساسة المقبلة يتطلب الاتفاق على آلية محددة للتشاور قبل اتخاذ أى قرار أو إصدار أى قانون.
وأعتقد أنه بوسع القوى السياسية صاحبة المصلحة فى التغيير أن تجبر المجلس على اعتماد آلية منتظمة للتشاور إن هى نجحت فى الاتفاق على مجموعة من الشخصيات العامة تمثلها فى التفاوض مع المجلس، فهل تستطيع حقاً؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire