jeudi 19 janvier 2012

عبد الله الاشعل للجزيرة : حتى لا تتحول "محاكمة مبارك" إلى فتنة

219

مبارك قيد المحاكمة في قفص ذهبي منذ الثالث من أغسطس/آب 2011 وهذا بحد ذاته أحد أهم ثمار "ثورة 25 يناير". ورغم كل شيء فإن مبدأ "محاكمة مبارك" ولو "عن التافه" مما ارتكبه من خطايا وجرائم يعجز عنها الوصف والتفصيل، هو سابقه بالغة الأهمية بالنسبة لبلد يقدس الحاكم ويظن الحاكم أنه سيد مصر ومالك أمرها دون معقب عليه.
"
مبارك يجب أن يقف في "ميدان التحرير" منتصبا احتراما للعسكرية المصرية وتقاليدها وأن تتلى عليه التهم والعقوبات وأن يرمى بالرصاص بعد محاكمة عادلة ناجزة
"
وبين عظم الخطايا والجرائم وحداثة السابقة السياسية والأخلاقية والقانونية وقعنا مع أسر ضحايا نظامه كله وضحايا ثورة الشعب "25 يناير" في ورطه التكييف بين الممكن والمثالي، بين الحق والتحيز. الحق هو أن مبارك يجب أن يقف في "ميدان التحرير" منتصبا احتراما للعسكرية المصرية وتقاليدها وأن تتلى عليه التهم والعقوبات وأن يرمى بالرصاص بعد محاكمة عادلة ناجزة وبعد أن يعامل في سجنه معاملة المجرمين الذين لم يحسبوا حساب يومهم هذا في الدنيا ولا في الآخرة "والذين لا يرجون لقاء ربهم فنسوا الله فأنساهم أنفسهم" فنحن إذن في هذه المحاكمة ندور بين إقرار مبدأ المحاكمة عن بعض الجرائم الخطيرة وبمنهج القانون الجنائي العادي، وبين محاكمة عادلة ناجزة عن جرائم لم تكن في حسبان المشرع الجنائي على مر العصور.
فالأصل أن يتولى رئيس الدولة مسؤولياته وأن يبذل في تحقيقها قدر ما يستطيع بكل حسن النية، ثم يعجز عن الأداء ويتخلل إدارته الفساد في بعض التصرفات التي تسير بها الأمور دون أن يصل الفساد إلى حد إتلاف كل شيء فتنهي عوامل بقاء الحاكم وتفرض عوامل القضاء نفسها عليه.
لقد عرفت الأمم عبر التاريخ نماذج من حكام طغاة فاسدين وكانت عاقبة أمرهم خسرا ولكن التاريخ لم يعرف حاكما مثل مبارك أعطاه شعبه تقليديا كل شيء، فلم يدخر وسعا في إذلاله وإفقاره واحتقاره والتفنن في أهانته والعمل بكل طاقته للإضرار بوطنه وتمكين أعدائه من اغتصابه في كل موقع حتى بلغ الجبروت والاستبداد والطغيان درجة منازعة "الله في ملكه"، فكانت هذه الثورة المباركة التي أراها إحدى المعجزات في زمن انعدم فيه الأمل في أي معجزة.
ذلك أن نظام مبارك قد صمم "كنظم العصابات" بحيث يعمل وفق خطة منظمة لنهب مصر واستنزاف مواردها وإرهاق شعبها وقهرهم على السكوت وتعذيبهم حتى الموت حتى ضاق الشباب ففروا إلى الخارج وكأن الأمل قد انقطع بهم فسقطوا في البحر المتوسط, وكانت أخر صور ودعتها أعينهم وهم يغادرون مطار القاهرة بكل الحسرة والانكسار هي صورة الجلاد التي وضعت في كل مكان تذكر الشعب بواقع لا يمكن الفكاك منه، ثم سمع الشباب وهو يصارع الموت بين أمواج ضحكة الجلاد مع عصابة اغتصاب الوطن وهي تستخف بجلاد الموت كمدا تحت الماء على النحو الذي صوره الشاعر المفكر فاروق جويدة في رائعته "هذه بلاد لم تعد كبلادي" وهو عنوان بالغ التهذيب لقصيدة مؤلمة تثير لواعج الوطنية والغضب من هذه العصابة التي تجردت من الأخلاق والإنسانية وتعمدت أن تكفر الناس بوطنهم الذليل بعد أن يئسوا من أن تحل بهم رحمة الله فاحتلت مصر المرتبة الثانية في نسبة الانتحار من الشباب بعد السويد التي ينتحر أبناؤها بطرا، بينما انتحر أبناؤنا يأساً وكمدا.
فعلام يحاكم مبارك؟ يجب أن يحاكم عن كل قطرة دم أريقت حتى في حوادث الطرق لأنه أشاع التوتر والاضطراب بعد تجفيف منابع الرحمة وفرغ المصريين من أخلاقهم وإنسانيتهم ومصريتهم، ثم قام بحرفية يحسد عليها جند لها فيالق المصريين القادرين على أداء هذه المهمة الشيطانية بتجريف كل شيء بعد الأخلاق، في التعليم والزراعة والصناعة وقناة السويس والبترول والغاز وغيرها، بل دمر مؤسسات الدولة وأبرز أسنان الأمن في كل مناحي الحياة وكأنه تعاقد مع إسرائيل على إبادة هذا الشعب بمختلف أنواع الأمراض بعد أن هيأ لذلك بإفساد كل مقومات الحياة من المياه والهواء والتربة.
أما في مجال التشريع فقد استجلب من سوق النخاسة من دعم حزبه حتى يصل إلى البرلمان فيفتح أمامه خزائن الثراء الفاحش الحرام، وأما الحكومة فقد أختارها بعناية وبعضهم تدخل الموساد والمخابرات الأميركية في اختيارهم بحيث تتوفر فيهم كل مقومات الصلاحية للتخريب ويعدمون كل ذرة من وطنية أو أخلاق، فلا يجوز لمن تورط في هذه الجرائم أن يظهر علينا مرة أخرى ليدعي أنه صانع الثورة وإلا طاردته الجماهير في كل موقع عانى استخفافه بعقولهم وبجاحته ، والأولى به وبأمثاله أن يتواروا لعل النسيان يطويهم فلا نتذكر محاكمتهم المحاكمة العادلة.
كل هذه الجرائم وغيرها مما يضيق المقام عن رصده وتفصيله لم يحسب حسابها المشرع الجنائي. فقيام الشعب كله بصدور عارية وبطريقة حضارية يطالب بسقوط الجلاد وعصابته فوجئ بالعصابة تحاول إعادته إلى زمن العبودية بكل أنواع القتل والإرهاب، فقتل النظام كله الشعب كله مرتين، مرة خلال حكمه، ومرة أخرى خلال ثورته على هذا الواقع الذي حاول النظام بالحديد والنار فرضه على الشعب ولو لم يكن هذا الشعب متحضرا لكان قد أراق دماء جلاديه في هذه الأحداث.
والتاريخ زاخر بأمثال هذه الممارسات ولكن الحضارة هزمت البربرية، فلا أقل من أن يدفع النظام كله للشعب كله ثمن إرهابه في محاكمة عادلة لم تعرفها يوما عصابة مبارك. وكان يجب على سلطة المرحلة الانتقالية التي حظيت بدعم شعبي غير مسبوق وغير قابل للتكرار أن تقيم هذه المحاكمة العادلة.
هذا المشهد ليس متوقعا عند المشرع الجنائي فمبارك لم يكن قاتلا عاديا حتى يحاكمه بمنطق القانون الجنائي ولكنه رئيس دولة الآمر في كل ما يحدث فيها والمسؤول عن كل أفراد العصابة التي بقيت في السلطة ما دامت قادرة على تنفيذ مخططه في القهر والنهب والإبادة والفسوق.
ليس من الطبيعي أن نتوقع عدالة عن أبسط ما ارتكب مبارك من جرائم في يوم واحد من أيام الثورة والقانون وضعه الطاغية وبقضاء أرهقته عملية البحث في مصادر التجريم.
وقد أشرنا مرارا إلى أن المعاهدات الدولية هي جزء من نظامنا القانوني ولكن أود أن أرى قرار الإحالة يجرم أفعال مبارك العديدة وفق هذه المعاهدات وأهمها معاهدة الفساد 2005 ومعاهدة إبادة الجنس عام 1948 ومعاهدات التعذيب والمرأة والطفل ومعظم معاهدات حقوق الإنسان التي توفر أساسا مبنيا لبناء قانون جنائي دولي يجد ظله في نظامنا القانوني.
على كل حال نحن نعدد كل أفعال مبارك ونظامه حتى تعرف الأجيال القادمة أي نوع من الجرائم ارتكبها هذا النظام بشكل متعمد لأن العبرة التي ننقلها للأجيال أهم في نظرنا من أي عقوبة يمكن أن تنزل بهذا النظام ورموزه الذين يتجرؤون الآن ويتقافزون فى كل مكان بل يترشح بعضهم لانتخابات الرئاسة ظناً منهم أنهم يستطيعون خديعة هذا الشعب مرة أخرى وهم لا يخدعون إلا أنفسهم ولكن لا يشعرون.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire