بقلم : همام سرحان - القاهرة- swissinfo.ch
أجمع خبراء مصريون على ضرورة تحلّي البابا الجديد، الذي سيتولى رئاسة الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، خلفا للراحل البابا شنودة الثالث، بقدْر كبير من "الحِكمة وسِـعة الأفق ورحابة الصدر والرغبة في التحاور مع المخالفين له، في الرأي أو العقيدة".
وشدّد الخبراء وهم مسيحيون ومسلمون، متخصِّـصون في شؤون الكنيسة والبرلمان وعلم الاجتماع والبحث السياسي والشريعة الإسلامية، في تصريحات خاصة لـswissinfo.ch على أهمية أن يُـدرك البابا الجديد، التحوّلات المصرية والعربية "فلا يعادي التيارات الإسلامية التي أفرزتها ثورة 25 يناير"، وأن "يتصدّى بحِـكمة للملفّـات الشائكة في الكنيسة، مثل الزواج الثاني والعلاقة مع الطوائف المسيحية الأخرى"، وأن "يُـوازن بين المسؤولية الرعوية الروحية، والمسؤولية الوطنية المصرية".
وأشاروا أيضا إلى ضرورة أن يكون "قادرا على استيعاب الشباب والعِـلمانيين في الكنيسة" وأن "يتمسّـك بوحدة النسيج الوطني المصري" وأن "يقف على مسافة من السلطة والنظام الحاكم، ليحافظ على استقلالية الكنيسة" وأن "يبتعد عن المشادّات السياسية" وأن "يُخرج الأقباط من أُطُـر الكنيسة إلى فضاء الوطن".
"لا يعادي التيارات التي أفرزتها الثورة.."
في البداية، أكّـد الدكتور القِـس، كمال يوسف، أحد قيادات الكنيسة الإنجيلية بمصر، أن "على البابا الذي سيخلف البابا شنودة، أن يكون صاحب قلب كبير وعقل مفتوح، وأن يتقبّـل الرأي الآخر برحابة صدر"، كما يجب أن "يكون حاسماً في قراراته وحازماً في إدارته للكنيسة، على أن يكون هذا الحسْـم والحزْم في محبّـة ومن غير كراهية".
وقال يوسف، راعي الكنيسة الإنجيلية بمنطقة حدائق القبّة في تصريح خاص لـ swissinfo.ch "على البابا الجديد أن يسير على درب البابا شنودة، في حب الوطن من القلب وأن يعرف أنه مصري قبل أن يكون مسيحياً، ومن ثم، يجب أن لا يقل عن البابا شنودة في حِكمته ووطنيته وحبّه لمصر"، معتبرا أن "البابا شنودة مهَّـد الطريق لمن سيأتي بعده، لأن يسير على درب المواطنة مع كل المصريين، حتى مَـن اختلفوا معه في الرأي أو العقيدة".
وأضاف: "كما يجب أن لا يقف موقفاً عدائيا من التيارات الجديدة، التي أفرزتها ثورة 25 يناير وما تلاها من فعاليات (انتخابات مجلسَـي الشعب والشورى)، وأقصد بها التيارات الإسلامية، التي أصبحت اليوم في صدارة المشهد السياسي لمصر"، وهو ما يستلزم "التعامل مع هذا الواقع الجديد، بروح محبة وعقلية متفتحة وفتح صفحة جديدة مع هذه القوى".
"يتصدى بحكمة للملفات الشائكة.."
وأشار يوسف إلى أن "هناك ملفّات كثيرة داخل الكنيسة المصرية، تحتاج من البابا القادم إعادة النظر فيها، مثل: الزواج الثاني والعلاقة مع الطوائف المسيحية الأخرى والعلاقة مع الأحزاب والكيانات السياسية الداخلية، وأيضا العلاقة مع الدول الخارجية، معتبرا أنه "يجب عليه أن ينفتح على كل هذه المشكلات والملفّات، بنظرة مُـتوازنة وفِـكر إداري وروحي. فالفكر الروحي بمفرده، لا يمكن أن يسوس الكنيسة".
وأوضح أن "الكنيسة هي مؤسسة شاملة (دينية – اجتماعية – روحية -...)، وهو ما يستلزم أن يكون البابا القادم صاحب شخصية شاملة، وليس بالضرورة أن يكون متخصِّـصاً في كل شيء. فهذا من المستحيل، لكن لابد عليه أن يفهَـم أغلب الأشياء، حتى يستطيع أن يقود سفينة الكنيسة في هذه المرحلة التاريخية والحسّاسة من تاريخ مصر".
وأكد القِـس كمال يوسف مجددا، على أهمية أن "يفتح البابا الجديد قلبه للجميع وأن لا يعادي أحدا، حتى أولئك الذين لم ينتخبوه. فالمعروف أن الإنسان بطبيعته البشرية، تكون لديه نزعة انتقامية ممَّـن أساؤوا إليه أو ممّـن لم يختاروه، لكنني أتمنى أن لا تكون هذه النَّـزعة موجودة لدى البابا الجديد"، مشددا على ضرورة أن "يتحاور مع باقي أطياف الوطن والكنائس الأخرى، وأن يكمِّـل ما بدأه البابا شنودة، عندما وضع ما يسمى بمجلس كنائس مصر. أتمنى أن يتبنى الفكر التوحيدي بين الكنائس المصرية".
نبيل مرقص، الباحث والخبير الاجتماعي (swissinfo)
"يوازن بين الروحانية والعمل العام.."
متفقا مع يوسف، يرى الباحث والخبير الاجتماعي، نبيل مرقص، أنه "من واقع التجربة الخاصة التي تجسَّدت في شخصية البابا شنودة، أعتقد أن الصفة الأساسية التي يجب أن يتحلى بها البابا القادم، هي التوازن الدقيق بين المسؤولية الرعوية والروحية، التي يمارسها في مواجهة شعبِه من المسيحيين وكنيسته، والدّور الوطني والسياسي، الذي يجب أن يُـدير من خلاله ملفّ العلاقة مع الدولة والشعب المصري".
وقال مرقص، الإستشاري المتخصّص في تنمية المجتمعات المحلية في تصريح خاص لـ swissinfo.ch "إذن، المطلوب في البابا الجديد أن يتحلى بالتوازن الدقيق بين المسؤولية الرعوية والروحية والمسؤولية الوطنية المصرية، التي تبقي وتحافظ على دور ومهمة الكنيسة، وهذا هو المِحك الرئيسي والتحدي الأساسي الذي يجب أن ينتبه له البابا القادم"، مؤكدا على أهمية "إعادة تفعيل الدور العام والوطني للنّخبة المدنية القبطية، التي تمّ تعطيل فِعلها الوطني لأعوام طويلة".
"حكيما يستوعب الشباب والعلمانيين.."
وأضاف مرقص: "يجب عليه أيضا أن لا يتبع نفس الطريقة الذي أدار بها البابا شنودة الكنيسة، وأن يسعى لتغييرها بما يعود بالخير على الكنيسة وعلى المسيحيين المصريين"، معتقدا أن "البابا شنودة – رغم حِكمته العالية – أثَّـر سلبياً على فعالية العمل القبطي العام، بجناحيه الإكليروسي (الكهنوتي) والمدني، وهو ما يستوجب إعادة التوازن بين العمل القبطي العام الكهنوتي والعمل المدني العام (عمل النخبة القطبية في المجال العام)".
واختتم حديثه قائلاً: "البابا الجديد يحتاج إلى مزيد من الحِكمة وسِـعة الصدر والتأنِّـي والقدرة على استيعاب كل الكيانات والقطاعات المسيحية، الراغبة في المشاركة (الشباب – العلمانيين)"، محذِّرا من أنه "بدون هذه الرَّحابة، ربما تحدُث أزمات مع هؤلاء الذين لم تُـتَـح لهم الفرصة للمشاركة من قبل، خلال فترة قيادة البابا شنودة الثالث للكنيسة الأرثوذكسية".
النائب البرلماني، أمين اسكندر، وكيل مؤسسي حزب الكرامة (swissinfo)
"يتمسّك بوحدة النسيج الوطني.."
متفقا مع مرقص ويوسف، يرى النائب البرلماني، أمين إسكندر، أن "المواصفات التي يجب أن يتحلى بها البابا القادم للكنيسة الأرثوذكسية في مصر، لها علاقة بالإيمان والعقيدة الأرثوذكسية القويمة والنِّضال من أجل الكنيسة والمناطق التابعة لها في العالم كلّه"، ومن ثم، فإنه "يجب أن يكون البابا الجديد متمسِّكاً بالعقيدة الأرثوذكسية وبالدور المنوط بالكنيسة والعمل على توسيع مناطق تأثيرها ونفوذها".
ويقول إسكندر، وكيل مؤسسي حزب الكرامة في تصريح خاص لـ swissinfo.ch "لابد أن يكون البابا الجديد راعياً صالحاً، مهتماً برعيته من شعب الكنيسة، حكِيماً في معالجة العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في المجتمع المصري"، مشددا على ضرورة أن "يتمسك بوحدة النسيج الوطني المصري ويعمل على تدعيم هذا الاتجاه وهذا الخط الجامع للمصريين، شركاء الوطن، مسلمين وأقباط".
ويعتبر إسكندر أن مِـن أهَـم ما يجب أن يتحلى به البابا القادم، أن يكون "مؤمنا بأن للكنيسة الأرثوذكسية دور مُـهم في الدولة المصرية، حيث تمثل القوى الناعمة، فضلا عمّا لها من نفوذ ومكانة في إفريقيا ودول منابع نهر النيل"، مطالبا البابا القادم بأن "يضع كل هذه العلاقات والمكانة والنفوذ، تحت أمر الصالح المصري".
يقف على مسافة من السلطة!
وينصح النائب البرلماني "البابا الجديد بالوقوف على مسافة من السلطة في مصر، وذلك حتى تكون الكنيسة الأرثوذكسية في وضعية مستقلّة، بعيدة عن سيطرة السلطة والنظام"، مؤكدا على أهمية أن "يبقى بابا الكنيسة في قلب الوطن والدولة، ولكنه في الوقت نفسه، على مسافة من السلطة والنظام".
كما ينصحه، بأن "يرعى أبناءه من الشباب المسيحي ويدعوهم ويشجعهم على الانخراط في العمل العام في مصر، وأن لا يوجههم إلى الانعزال بعيداً عن قضايا المجتمع، خاصة بعد التغيير الذي أحدثته ثورة 25 يناير في المجتمع المصري وما شاهدناه خلال الثورة، على مدى ثمانية عشر يوماً من التِـحام الشباب المسيحي مع الشباب المسلم، رافعين شعار (مسلم مسيحي.. يد واحدة).
الدكتور وصفي عاشور أبو زيد، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. (swissinfo)
يبتعد عن مشادات السياسية
وفيما يتقدّم الدكتور وصفي عاشور أبو زيد، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بخالص التعزية إلى "إخوتنا في الوطن (المسيحيين) في وفاة رمزهم البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية"، يتمنى أن "تعود الكنيسة الأرثوذكسية إلى سابق عهدها في الرعاية الروحية والتزكية الإيمانية وغرس الأخلاق الرفيعة، التي تنهض بمصر وبالمصريين، وتعزز قِـيم الوحدة الوطنية والانتماء الوطني".
يشير أبو زيد، عضو رابطة علماء أهل السُـنة إلى أنه قد "آن للمصريين أن يكونوا يدا واحدة، بعيدا عن مصطلحات الأقلية والأغلبية ومصطلحات: استبداد الأقلية أو تكوين كيانات داخل الدولة أو دولة داخل الدولة"، متمنيا أن يكون البابا الجديد، أقرب إلى تعاليم رسالة المسيح، التي تسعى لغرس الأخلاق وتنمية الجانب الروحي، بعيدا عن مشادات السياسية، التي ليست جزءا من رسالة المسيح (عليه السلام)".
يُـدرك التحولات المصرية والعربية
ومن ناحيته، يقول الباحث والمحلل السياسي مصطفى عاشور: "لا شك أن مشكلة القيادات الكبيرة تخلق فراغات كبيرة عند رحيلها وترفع الغطاء عن تفاعلات مكتومة تحت السطح، لم تكن لتظهر في ظل وجود شخصياتها الكاريزمية، والبابا شنودة كان من هذا المِعيار"، ومن ثم، فإن "شخصيته ستُـتعِـب مَـن سيأتي بعده، سواء في عملية الاختيار أو القيام بالدور المنوط به أو في التعامل مع الرُّؤى والأفكار التي كانت مُـتوارية أثناء قيادة البابا الراحل للكنيسة المصرية، وهذا يقتضي أن تعكس عملية الاختيار توافقا كبيرا، وأن لا تعبِّـر عن رأي واحد".
ويضيف عاشور "البابا القادم يجب أن يكون مدركا أنه يتولّى الكنيسة، في ظل تحولات مصرية وعربية وكنسية، وهو ما يعني أن الواقع المصري سيشهد قدرا من ظهور الآراء والتنوّع، وهو ما يحتاج إلى اعتراف، وليس إلى إقصاء"، كما يجب "أن لا يكون صداميا، خاصة وأن الحالة المصرية تشهد صعودا لبعض التيارات الإسلامية في الحياة السياسية، وبعض هذه التيارات تصدر في خطابها الإعلامي ما يخلق توترا حقيقيا في العلاقة بين المسلمين والأقباط".
ويستطرد قائلاً: "وهو ما يفرض على البابا القادم أن يتفهّم أن هذه الخطابات ليست تعبيرا عن الخطاب الإسلامي العام، ولكنها نشاز يجب أن لا يقابل بخطاب مسيحي ناشِـز، يواجه الإساءة بالإساءة، ولكن يقابلها بما تمليها المسيحية السّمحة، من تغاضي عن تلك الهوامش في الخطاب وإدراكا منها أنها خطابات لا تمثل التيار الإسلامي الرئيسي في مصر".
الباحث والمحلل السياسي مصطفى عاشور (swissinfo)
من أطر الكنيسة إلى فضاء الوطن!
واستدرك عاشور قائلاً: "ولكن، يقابلها بما تمليه المسيحية السّمحة من تغاضي عن تلك الهوامش في الخطاب، وإدراكا منها أنها خطابات لا تمثل التيار الإسلامي الرئيسي في مصر، القائم على الوسطية والانفتاح والتسامح ومحاولة خلق بناء توافقات وطنية، تسمح للجميع بالتواجد والتعبير عن وجوده، ومشاركتها في الهم الوطني".
وأوضح أن "المطلوب من البابا القادم، أن يخرج الأقباط من أطر الكنيسة إلى فضاء الوطن وأن لا يكون انعزاليا، يرى نفسه ممثلاً فقط للأقباط أمام الدولة المصرية، بحيث لا يرسخ روح الانعزالية داخل الفضاء القبطي، فتصير سفينة الوطن وكأنها تبحر إلى وجهتيْن مختلفتيْن، لأن ذلك يحوِّل الأوطان إلى قِـلاع يتنابذ فيها المصريون".
"مطلوب من البابا أيضًا – يكمل عاشور- أن يدرك أن قوة الكنيسة في مصريتها ووطنيتها، وبإصرارها على ذلك وسعيها لإيصال تلك الرسالة إلى الجموع من أبناء الوطن. فالبابا الجديد بفِعله ذلك الأمر، فإنه سيكتب صفحات جديدة، سبقه إليها آخرون من باباوات عِظام في تأكيد وطنيتهم، لأن استلهام الوطن في التفكير واستحضاره في التصور، يخرج الأقباط من جب الطائفة المظلومة إلى مساحة الفصيل الوطني، المساهم في البناء والتنمية والتحضر".
همام سرحان - القاهرة- swissinfo.ch
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire