لنفترض أن رجلا عاد إلى منزله فى المساء، وفجأة، بينما هو يصعد الدرج إلى شقته، رأى أحد المجرمين يحاول اغتصاب فتاة. الفتاة تستغيث وتحاول الإفلات، لكنها لا تفلح والمعتدى يمزق ثيابها ويشرع فى اغتصابها. إن رد فعل الرجل على الجريمة التى تحدث أمامه سيكون واحدا من الاحتمالات الآتية:
1- أن يندفع الرجل لإنقاذ الفتاة من الاغتصاب ولو كلفه ذلك حياته. فى هذه الحالة سيكون رجلا شجاعا صاحب نخوة ومروءة.
2- أن يمتنع الرجل عن إنقاذ الفتاة بنفسه، لكنه يسرع بالصعود إلى شقته ويستدعى الشرطة. سيكون فى هذه الحالة رجلا عاديا لا يتمتع بشجاعة فائقة، لكنه على كل حال يشعر بأنه مسؤول عن منع الجريمة.
3- أن يصعد الرجل إلى شقته ويعيش حياته الطبيعية ويتناسى تماما أمر الجريمة ويترك الفتاة لمصيرها. فى هذه الحالة سيكون رجلا جبانا منعدم الضمير.
4- أن يتقاعس الرجل عن إنقاذ الفتاة، لكنه لا يكتفى بذلك وإنما يشتمها وهى تغتصب أمام عينيه ويتهمها بأنها منحرفة تحب أن تغتصب.. هنا يقدم الرجل نموذجا قبيحا فى السلوك الإنسانى بل إنه فى رأيى يحتاج إلى تحليل نفسى لمعرفة كيف استطاع أن يقتل ضميره ويلوم الضحية ويسخر منها. . هذه الحالة من التفكير المشين للأسف قد انتابت بعض المصريين مؤخرا، فقد ارتكب أفراد الشرطة والجيش جرائم بشعة ضد المتظاهرين فى ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء. كل أنواع الجرائم ارتكبت ضد مواطنين مصريين عيانا جهارا بدءا من فقء الأعين بالخرطوش والقتل بالرصاص الحى وهتك أعراض البنات بواسطة الجنود وسحلهن على الأرض..
كل هذه الجرائم الموثقة بالصوت والصورة أثارت عاصفة من الغضب ضد المجلس العسكرى فى مصر وفى أنحاء العالم، لكن بعض المصريين مازالوا يقللون من أهمية هذه الجرائم بل يلومون الضحايا.. هؤلاء الساكتون عن الحق الذين يبررون أبشع الجرائم بضمير ميت، يحبهم المجلس العسكرى ويعتبرهم فى بياناته مواطنين شرفاء. المواطنون الشرفاء فى نظر المجلس العسكرى هم الذين يوافقونه على كل ما يفعله ويؤيدون خطته فى إجهاض الثورة ويتغاضون عن كل الجرائم البشعة التى هو المسؤول الوحيد عنها سياسيا وجنائيا.. كيف نرى بأعيننا بنتا مصرية ينتهك عرضها ويتم سحلها بوحشية بواسطة جنود الجيش ثم يلومها «المواطنون الشرفاء» لأنها كانت ترتدى عباءة بكباسين وليس بأزرار؟! كيف نرى أمهاتنا وأخواتنا يسحلن ويسقطن تحت أحذية الجنود ثم يخرج علينا أحد «المواطنين الشرفاء» ليطالبنا بنسيان هذه الجرائم والنظر إلى المستقبل. أى مستقبل هذ الذى نريده قبل محاكمة الذين قتلوا أبناءنا وهتكوا أعراض بناتنا؟! إن هؤلاء «المواطنين الشرفاء» ظاهرة غريبة فى المجتمع المصرى حاولت أن أفهمها فوجدتهم ينقسمون إلى خمسة أنواع:
النوع الأول: الوزير التابع
مفهوم الوزير عند حسنى مبارك هو نفسه عند المجلس العسكرى. المهمة الأولى لأى وزير تتلخص فى الدفاع عن قرارات السلطة وتبرير أخطائها وجرائمها، وبالتالى فقد ارتكبت كل هذا الجرائم البشعة ضد المصريين، فلم يتحرك وزير واحد ليعترض أو يتقدم باستقالته لأنه يفهم جيدا أن وظيفته إطاعة أوامر المجلس العسكرى كما كان يطيع أوامر مبارك. بل إن رئيس الوزراء الجنزورى تعهد بتوفير الحماية الكاملة للمتظاهرين لدرجة أنه أكد أنه لن يسمح بالعنف اللفظى ضدهم (فما بالك بالعنف الجسدى) هذا التعهد قاله الجنزورى أمام كاميرات العالم ثم حدثت المذبحة ضد المتظاهرين أمام مجلس الوزراء، فلم يحس الجنزورى بأدنى حرج من أنه قد نقض عهده ولم يحترم كلمته لأنه ببساطة يعتبر أنه يعمل عند المجلس العسكرى الذى تعتبر إرادته فوق كل شىء.
النوع الثانى: الليبرالى الانتهازى
ينتشر هذا النوع من «المواطنين الشرفاء» بين أساتذة الجامعة والمثقفين والمهنيين.. الليبرالى الانتهازى يعتبر نفسه أحق من غيره بالحياة الرغدة الناعمة وهو مستعد للنفاق والتدليس والتعاون الكامل مع جهاز أمن الدولة وكتابة تقارير عن زملائه وهو يذهب بنفسه ليعرض خدماته على السلطة. إنه مستعد لأن يفعل أى شىء ويدهس القيم جميعا حتى يصل إلى القمة ويتولى منصب الوزير، وهو لا يكتفى بالتغاضى عن الجرائم البشعة التى ارتكبها أفراد الجيش والشرطة ضد المتظاهرين، لكنه أيضا مستعد تماما لإيجاد تبريرات سياسية لهذه الجرائم.. وهو يعلم أن التحالف مع المجلس العسكرى عين العقل لأنه مهما حدثت تغيرات فإن المجلس العسكرى سيظل قادرا على أن يمنحه الامتيازات التى يريدها.
النوع الثالث: المتطرف الكاره
هذا النوع من «المواطنين الشرفاء» يعتنق تفسيرا متطرفا للدين يحضه على الكراهية والعنف بدلا من أن يدفعه إلى المحبة والتسامح. إن فهم المتطرف الخاطئ للإسلام يدفعه إلى إظهار الكراهية والاحتقار لكل المختلفين عنه. إن المتطرف يكره المسيحيين الغربيين والأقباط المصريين والبهائيين والشيعة والصوفيين والليبراليين واليساريين والعلمانيين. إنه ببساطة يكره الجميع إلا من يشاركه تطرفه وهو يعتبر المختلفين عنه ضالين وفاسقين أو كفارا أو متهتكين منحلين أو عملاء متآمرين ضد الإسلام.. إنه يعتقد أنه الوحيد الذى يفهم الدين الصحيح، وهو الوحيد الذى يملك الحقيقة الكاملة ويعتبر من حقه أن يفرض آراءه على الناس بالقوة. يحتاج المتطرف الكاره إلى نظرية المؤامرة حتى يحتفظ بتطرفه. إنه يعتقد جازما أن دين الإسلام يتعرض إلى مؤامرات داخلية على أيدى العلمانيين والليبراليين واليساريين بالإضافة إلى المؤامرة الخارجية الكبرى من الدول الغربية الصليبية ضد الإسلام.
لا يمكن لأحد أن يقنع المتطرف الكاره بأن الليبراليين واليساريين مصريون وطنيون دفعوا ثمنا باهظا فى الثورة التى لم يرتفع خلالها أى شعار دينى. لا يمكن أن تقنعه بأن زعماء مصر جميعا بدءا من سعد زغلول إلى عبدالناصر كانوا ليبراليين أو يساريين يؤمنون بالدولة المدنية وأنهم كانوا يعتنقون الإسلام كدين عظيم وليس كبرنامج سياسى يتم استعماله للوصول إلى السلطة.
لا يمكن إقناع المتطرف بأن الدول الغربية لا يهمها سوى مصالحها بدليل أن أقرب حلفاء الولايات المتحدة بعد إسرائيل هو النظام السعودى مصدر الوهابية فى العالم، وأن حركة طالبان أسستها المخابرات الأمريكية ودعمتها سنوات قبل أن تنقلب عليها، وأن الجنرال ضياء الحق، رئيس باكستان الأسبق، كان عميلا للمخابرات الأمريكية وفى الوقت نفسه طبق نظاما إسلاميا متشددا بدعم سعودى، بل إن الولايات المتحدة تعادى «حزب الله» وحماس لأنهما حركتا مقاومة وليس لأنهما إسلاميتان..
مهما قلت للمتطرف لن يصغى إليك وغالبا سوف يتطاول عليك ويشتمك ولن يصدقك أبدا لأنه يؤمن فقط بما يقوله شيخه فى الجامع. وهو يعتقد أن كل من يختلفون معه سياسيا إنما يختلفون مع الإسلام نفسه وبالتالى هم أعداء الدين الذين يستحقون كل أنواع العقاب والتنكيل. وهكذا بينما تأثر ملايين الناس فى كل أنحاء العالم بالفيديو الذى يصور البنت المصرية البريئة بينما مجموعة من الجنود يسحلونها ويضربونها بأحذيتهم، رأيت على قناة تليفزيونية وهابية ثلاثة من المشايخ الملتحين المشهورين يستهزئون بالفتاة المسحولة ويتهمونها فى شرفها ويضحكون عليها. السبب فى هذا السلوك أن هؤلاء المشايخ لا يريدون إغضاب المجلس العسكرى حتى يسلمهم السلطة، كما أنهم يعتبرون أن هتك الأعراض يستحق الغضب فقط إذا كانت الضحية إحدى الأخوات العضوات فى جماعتهم، أما إذا حدث لفتاة مصرية عادية فهى لا تستحق الدفاع عن شرفها لأنها بعيدة عن الإسلام الصحيح الذى يمثلونه وحدهم. . هؤلاء المشايخ وهم يمارسون أسوأ درجات العنصرية والسقوط الأخلاقى فيسخرون من بنت ضعيفة انتهك الجنود شرفها ـ مازالوا مصرين على التحدث باسم الإسلام وهم بعيدون عن أى دين وأى قيمة إنسانية.
النوع الرابع: المتوائم الفاسد
هذا النوع من «المواطنين الشرفاء» انتشر بسبب الفساد الشامل. تحت حكم مبارك وجد المصرى نفسه أمام اختيارات ثلاثة: إما أن يهاجر إلى الخارج أو يشترك فى الفساد ليعيش أو يظل يرفض الفساد فيدفع ثمنا باهظا. آلاف المصريين لم يشتركوا فى الحزب الوطنى لكنهم مارسوا الفساد فى نطاق وظائفهم. أقنعوا أنفسهم بأن حال مصر لن ينصلح أبدا، وأنهم مضطرون لمجاراة الفساد حتى يعيشوا. هؤلاء موظفون مرتشون ومدرسون كونوا ميليشيات للدروس الخصوصية وأطباء يبيعون أدوية ممنوعة ومهندسون يبيعون التقارير الفنية... إلخ.
هؤلاء الفاسدون فوجئوا تماما بالثورة وهم بالطبع لم يشتركوا فيها ولم يحبوها. الثورة تثبت لهم أنهم قد استسلموا وفسدوا، بينما ملايين الشباب فى سن أبنائهم ثاروا ودفعوا من دمائهم ثمن الحرية والكرامة. إنهم يكرهون الثورة لأنها تذكرهم بأن فسادهم لم يكن قدرا، وإنما هو اختيار كما أن التغيير الديمقراطى الحقيقى سيسد عليهم مصادر الفساد التى اعتادوا عليها. هؤلاء الفاسدون يؤيدون قمع الثوار وقتلهم حتى تعود الأحوال إلى ما كانت عليه فى السابق ويستأنفون ممارسة الفساد.
النوع الخامس: المذعنون المذعورون
هؤلاء كانوا قد استسلموا لقمع نظام مبارك وتقبلوه وتعايشوا معه. . الرجل من هذا النوع إذا استوقفه ضابط شرطة فى سن أبنائه فصفعه وشتمه، فإنه يعتبر تلك الإهانة مجرد تجربة سيئة يجب أن ينساها ويستأنف حياته بشكل طبيعى.. المذعن مذعور دائما من أى تغير يحدث فى مصر لأن إحساسه بالأمن أهم بكثير من كرامته... هؤلاء «المواطنون الشرفاء» تم الضغط عليهم بالانفلات الأمنى والأزمات المصطنعة حتى أصابهم الرعب وهم يرفضون التعاطف مع الشهداء والبنات اللاتى انتهكت أعراضهن، لأن هذا التعاطف سيجعلهم ينتقدون المجلس العسكرى وهم عاجزون نفسيا عن التفكير بعيدا عن سلطة تحميهم حتى لو قمعتهم وانتهكت حقوقهم الإنسانية.
أخيرا إن الجرائم البشعة التى ارتكبت ضد المتظاهرين قد أثبتت حقيقتين: أولا أن معظم المصريين مازالوا مخلصين للثورة، مصممين على استكمال أهدافها، وهم يفهمون تماما محاولات المجلس العسكرى المتكررة لكسر إرادة الثوار وإجهاض الثورة، وثانيا: أن نظام مبارك الذى جثم على مصر ثلاثة عقود قد أوصلها إلى الحضيض فى كل المجالات، لكنه أيضا قد أصاب بعض المصريين بتشوهات ذهنية وفكرية أصبحوا معها عاجزين عن رؤية الحقيقة وغير قادرين على اتخاذ الموقف الأخلاقى الذى تفرضه المسؤولية الإنسانية.
إن التحقيق الكامل لأهداف الثورة هو الطريق الوحيد لبناء الدولة الديمقراطية وهو أيضا الكفيل بأن يسترد المصريون صحتهم النفسية والذهنية حتى يصبحوا جميعا مواطنين شرفاء حقيقيين.
«الديمقراطية هى الحل»
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire