lundi 19 novembre 2012

جريدة فورين بوليسي : حواديت عمر سليمان

جريدة فورين بوليسي- ستيفن كوك

ترجمة: سها همام

مات رجل السياسة المهاب ولكن لم يمت النظام الذي تركه خلفه..

"أنا مسئول عن استقرار مصر" قالها اللواء عمر سليمان وصوته يرتفع بينما تهوي قبضته الكبيرة على الطاولة ليعضد وجهة نظره. كانت هذه أول خبرة لي مع سليمان الذي كان وقتها رئيس جهاز مخابرات مبارك وعينه الساهرة التي لا يفوتها شيء. حدث هذا في ربيع عام 2005 وكنت أجلس حول طاولة اجتماعات في قلب مدينة واشنطن مع مجموعة من الأشخاص أقدم مني بكثير. كانت المحادثات التي تم تبادلها مع المخبوزات غير الطازجة والقهوة الرديئة في ذلك الصباح تتعلق في الأغلب بالصراع الفلسطيني - "الإسرائيلي". أما واقعة القبضة التي هوت على الطاولة فقد حدثت في نهاية الساعة حين تحدث أحد الأشخاص بشكل كاد أن يكون عابرًا عن إمكانية التغيير الديمقراطي في مصر.

في التاسع عشر من شهر يوليو مات سليمان بأزمة قلبية بينما كان يجري فحوصًا طبية في مستشفى بكليفلاند. كان يعاني من مرض مزمن يتعلق بترسيبات غير طبيعية في نسيج يؤثر على القلب والكبد، وجاءت وفاته المفاجئة لتشكل صدمة لأعدائه ومحبيه على وجه سواء.

كان رفض سليمان للإصلاح مثيرًا للدهشة بنفس الدرجة. ليس فقط بسبب صوت قبضته العريضة وهي ترتطم بالطاولة الخشبية، ولكن لأن نبذه للفكرة كان شديد الصراحة. فحتى في السابق في الأيام التي اقترح فيها الرئيس جورج بوش "أجندة الحرية" كان المسئولون المصريون ماهرين في المراوغة وفي شق طريقهم وسط المحادثات عن التغيير السياسي. كانت المحادثات لعبة رفضوا أن يقولوا فيها نعم أو لا. لكن سليمان - الرجل الأقرب لرأس السلطة في مصر باستثناء أفراد من أسرة مبارك نفسها - لم يكن يلعب تلك اللعبة.

كان منظور عمر باشا - اللقب التشريفي الذي يعود تاريخه لحقبة مصر العثمانية، متسقًا للغاية مع كل ما قرأته (ليس بالكثير)، أو سمعته (تغلب عليه الشائعات)، ثم لاحقًا علمته عن هذا الرجل هو - مثله مثل الرئيس الذي كان يعمل لصالحه - كان يؤمن بشكل قاطع أنه فهم مصر أكثر من أي أحد. هذه القناعة والتي طالما تم التعبير عنها بالتلاعب، بالقسر، وباللجوء للعنف سوف تصبح لاحقًا سببًا في سقوطه السياسي.

سليمان وأنا كنا بالكاد أصدقاء، وبكل تأكيد لم أكن أعرفه بشكل شخصي، لكنه تقبل متكرمًا طلباتي لعقد اجتماعات معه. بين ربيع 2005 والرابع والعشرون من يناير 2011 - ليلة الثورة وآخر مرة رأيته فيها - قابلت سليمان أربع مرات: مرتان في لقائين منفردين، مرة في لقاء مع زميل، ومرة في لقاء جماعي. كذلك قبل سليمان متكرمًا طلباتي لإجراء حوارات ليست للنشر بمساعدة من أصدقاء مصريين لأصدقائي ومن أمريكيين يعرفونه بشكل شخصي. تطلب هذا أن أسعى لأكون على قدر من الحظوة وإن لم أدعها أبدًا تهدد بوصلتي الأخلاقية.

غاية ما أستطيع أن أخبر به أحدًا عن مكان جهاز المخابرات العامة، جهاز المخابرات المصرية الداخلية والخارجية والذي كان مقر سلطة سليمان، هو أنه يقع في ضاحية هليوبوليس الأنيقة. فعلى عكس الأفلام التي تعرض زوارًا يتم تغطية رءوسهم قبل دخولهم لمواقع سرية وحساسة، فإن المصريين على ما أعتقد ظنوا أنهم يمكنهم إرباكي قبل أول مقابلة شخصية لي مع عمر باشا. ولقد نجحوا في ذلك: قادوا بي السيارة لمدة ثلاثين دقيقة مضاعفة ذهابًا وإيابًا، يسيرون في دوائر، ويسرعون في أحياء غير مألوفة حتى فقدت القدرة على تمييز المكان تمامًا. وحين مرت السيارة أخيرًا عبر البوابات الحديدية العملاقة، وصلنا لمجمع مبان عتيق محاط بالنجيل والأشجار. كان هناك مبان أخرى لكن لم يكن هناك إنسان على مرمى البصر.

تم توصيلي للمبنى الأول وقيل لي أن أنتظر بالسيارة. ثم أخيرًا قابلني رجلان لم أرهما من قبل يرتدون زيًّا رسميًّا وقالا لي أن أتبعهما نحو المبنى، سلماني حينئذٍ لضابط آخر بزي رسمي اقتادني بالمصعد لبضعة أدوار علوية، حيث قابلت عندها رجلاً لطيفًا يرتدي حلة زرقاء شديدة الأناقة. اقتادني الرجل لغرفة انتظار واسعة ذات أضواء ساطعة وأثاث مبهرج وبها جدارية كبيرة تسجل انتصارات الجيش المصري منذ العصور القديمة وحتى عبور قناة السويس في أكتوبر عام 1973. بعد مرور وقت بدا وكأنه لا نهائي، اصطحبني نفس الرجل ذو الحلة الزرقاء لما يمكن وصفه بأنه مكان لا يلفت الانتباه. غرفة معيشة أمريكية الطراز بها رفوف للكتب، أريكة، كرسي كبير وثير، وكرسيان موضوعان في نهاية طاولة منخفضة. طلب مني أن أجلس على الأريكة بقرب الكرسي الوثير. ودخل عمر باشا بعدها بلحظات يتبعه اثنان من المساعدين وقال بصوت عميق: "صباح الخير". تركزت محادثتنا بشكل كاد أن يكون كليًّا على العلاقات الخارجية. كان شديد العداء لأعداء أمريكا بالشرق الأوسط، واشتكى بمرارة أنه كلما اعتقد أنه توصل لاتفاقية بين السلطة الفلسطيبنية وحماس قام السوريون والإيرانيون بإحباطها. عرض سليمان أيضًا رؤيته أن الولايات المتحدة، مصر، والدول الأخرى الصديقة في المنطقة يجب أن يعملوا سويًّا من أجل أن تظل "إيران مشغولة بنفسها"، كان تلميحه واضحًا - يجب على المخابرات المصرية، السي آي إيه، الموساد، المخابرات السعودية، وآخرين أن ينخرطوا في عمليات سرية لزعزعة استقرار نظام الحكم الديني في طهران.

لغة سليمان الصارمة كانت جزءًا لا يتجزأ من تحول في الخطاب المصري في نهاية عهد مبارك. في هذه الأعوام، كان المصريون دائمًا ما يبحثون عن طرق أخرى لجعل أنفسهم أكثر فائدة لواشنطن بوسائل تزيد عن مجرد الاشتباك مع حماس، المشاركة في عمليات الترحيل السري للمشتبه في كونهم إرهابيين، ورعايتهم للمحادثات الفلسطينية – "الإسرائيلية" من حين لآخر. لم تفلح محاولاتي مع عمر باشا لإغرائه بالحديث عن السياسات الداخلية المصرية، وحين انتهت الساعة المخصصة لي استأذن في الانصراف مصطحبًا معه مساعديه. بعدها اصطحبني الرجل ذو الحلة الزرقاء للمصعد ثم تكرر كل شي بشكل عكسي.

سارت زياراتي التالية على نفس النسق تمامًا، كان سليمان يقود المحادثة بثبات تجاه العلاقات الخارجية. كان مستفيضًا في الكلام عن التحديات المختلفة على الصعيد الفلسطيني - ضعف الرئيس محمود عباس وصلة حماس بالإخوان المسلمين الذي اشتهر على لسانه نطقه الخاطئ لاسمهم بالإنجليزية. وبسبب علمه بعلاقته الوطيدة مع "الإسرائيليين" فقد ذكر محتدًّا في أحد اجتماعاته معي أن "الإسرائيليين" يشكلون وجهة نظر معادية لمصر في الكونجرس بعرضهم لفيديوهات التهريب على حدود مصر مع غزة. هو أيضًا استاء من المساعي التركية للتوسط بين حماس والسلطة الفلسطينية، متذمرًا أن الأتراك لا يفهمون حماس. ربما يكون ذلك صحيحًا، لكن سليمان كان منزعجًا بشكل واضح من زحف وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو على المضمار المصري.

آخر مرة رأيت فيها عمر باشا كان في الرابع والعشرين من يناير عام 2011 - في ليلة الثورة المصرية. كنت مع مجموعة من خبراء السياسة الخارجية، كبار رجال الأعمال، والشخصيات الخيرية والتقينا في قاعة كبيرة في المقر الرئيس للجي آي إس. كان من الصعب تجاهل صوت الموسيقى الفظيعة التي كانت تأتي من المكبرات. حين وصل سليمان جلس بمفرده على منصة وتحدث في ميكروفون، على الرغم من أن الوفد لم يتجاوز خمسة وعشرين شخصًا يجلسون في الصف الثاني من القاعة. خلف مجموعة من العاملين في الجي آي إس. في خلال هذا الاجتماع علمنا أن الولايات المتحدة قد أمدت مصر بالتكنولوجيا اللازمة لقطع الإنترنت وهو الشيء الذي سيوظفه المصريون بإخلاص، وإن لم يكن بشكل فاعل لدرجة كبيرة، في أقل من الأربع وعشرين ساعة التالية.

بحلول يوم الرابع والعشرين من يناير كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد سقط بالفعل وتسببت موجة من إشعال المواطنين المصريين النار في أنفسهم في انتشار التكهنات بشكل كبير عما إذا كانت الثورة تتجه نحو الشرق. ولهذا فقد كان من الطبيعي أن يسأل أحد أعضاء وفدنا سليمان عن إمكانية تكرار الثورة التونسية في مصر. ولكن حتى في هذه الساعة المتأخرة فإنه كان لا يزال يحمل نفس الازدراء للتغيير الذي حمله منذ ستة أعوام، حين هوى بقبضته على طاولة غرفة اجتماعات واشنطن. "لا" أجاب سليمان. "الشرطة لديها خطة والرئيس قوي" حتى في ذلك الوقت كانت غطرسته مدهشة.

بعد ذلك بأكثر من أسبوعين بقليل، كان سليمان بوجهه الرمادي هو الذي جلب نهاية رسمية لعهد مبارك في خطاب تليفزيوني قصير؛ "أيها المواطنون في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدراة شئون البلاد" أعلن سليمان.

لا يزال بعض أصدقائي المصريين يجدون صعوبة في التعامل مع حقيقة أن سليمان كان غير قادر على قمع الثورة المصرية. بالنسبة لهم كان هذا رجلاً - برغم إحاطته بالسرية - شديد الخطورة. ألم يكن هو أمير الدهاء والرجل المهاب؟ فهو قد تمكن برغم كل شيء من كبح زمام الإخوان المسلمين، من قمع معارضي النظام الآخرين، من لعب دور المحاور الذي يحظي بثقة الأمريكيين و"الإسرائيليين" على السواء، ومن أن يضع اسمه على القائمة القصيرة لخلفاء مبارك المحتملين. يصعب على بعض المصريين أن يعقلوا حقيقة أن سليمان لم يكن بالخطورة التي تخيلوها.

فشل عمر باشا في إيقاف الثورة كان نتيجة مباشرة لكبريائه وغطرسته التي صورت له أن قوة الشعب لا تستطيع أبدًا تهديد النظام. قناعته العسكرية أنه وحده الذي يستطيع تحريك مقاليد السلطة في مصر كانت في غير محلها في نهاية المطاف. ففي النهاية، أساء سليمان فهم شعبه الذي رفض الاستسلام لأساليب القمع التي عمل جيدًا على إتقانها.

لا أستطيع القول: إنني سأفتقد عمر باشا ولكن لسبب هام أنا سعيد أني قابلته. بموافقته على مقابلتي، بكونه دائم التهذيب، بإجابته لأسئلتي، ألقى لي بعض الضوء على الطريقة التي يفكر بها - وبالتالي ألقى الضوء على الطريقة التي يفكر بها النظام ويبرر بها أفعاله. أنا أعلم أنه اعتقد أن محاولاته الحثيثة للتلاعب والقهر لم تكن إلا عملاً وطنيًّا، لكن هذا يصعب تبريره حين يوضع في الاعتبار تورطه في الجرائم والانتهاكات المتعددة لنظام مبارك.

موت سليمان أثار شعورًا بالارتياح - وحتى البهجة - بين البعض من معارضي نظام مبارك. هذا أمر مفهوم، لكن السعادة ليست في محلها. هو كان فقط نتاجًا لنظام لم يتم إسقاطه بعد. لذا فأيًّا كانت الطاقة التي تنفق على الاحتفال بموته، تظل طاقة مهدرة على حساب بناء نظام سياسي جديد.

مفكرة الاسلام

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire