تميم البرغوثى : الإنذار

لا بد للمجلس أن يرحل، هكذا هتف الناس، وأظنهم يعنون أن لا بد من رحيله لا من رئاسة البلاد فحسب بل من قيادة الجيش أيضا، لقد رأينا جنود الجيش باللباس العسكرى يهتكون عرض امرأة فى ميدان التحرير، يعرونها من ملابسها، ويتركونها مرمية فى الشارع، ، ولقد رأينا جنود الجيش باللباس العسكرى يتبولون على رءوس العباد من على سطوح البنايات فى شارع القصر العينى، ولقد رأينا جنود الجيش يشيرون بأصابعهم إشرارات بذيئة لا تختلف عما فعله ضباط الأمن المركزى يوم هجم على أهالى الشهداء فى يونيو الماضى، وهذا كله مسجل بالصوت والصورة ونشرته وسائل الإعلام فى أنحاء العالم، وهذا كله بعد أن نقبل بزعم الحكومة أن من أطلق النار على الناس كان طرفا ثالثا مجهولا كأن فى مصر جيوشا من الأشباح والجن يظهرون ويختفون ولا يعثر لهم على أثر.

أقول إن هذه الأفعال إن كانت صادرة عن أوامر من الضباط فهى جرائم، وإن لم تكن صادرة عن أوامر منهم فهم إذن لا يسيطرون على جنودهم، وإن كانوا لا يسيطرون عليهم فى ميدان التحرير وهم يهاجمون المدنيين العزل، فكيف يسيطرون عليهم غدا فى حالة الحرب وهم يواجهون أهوال البر والبحر؟ وبصراحة فإن تجمع ثلاثة جنود أو أكثر على امرأة واحدة عزلاء ليخلعوا ملابسها لا يشى بالكثير من الشجاعة، فإن كان مستوى شجاعة هؤلاء أنهم يحتاجون أن يتكاثروا على امرأة واحدة ليغلبوها، افكيف بهم غدا إذا واجهو الميركافا والإف ١٦؟

أما إن كانت هذه الأفعال صادرة عن رجال مجهولين لبسوا لباس الجيش زورا ليشوهوا سمعته، فما هو مستوى التنظيم والانضباط فى الجيش الذى يسمح بمثل هذا الاختراق؟

إننى هنا لا أقلل من قدر الجيش كمؤسسة ولا من الجنود الكرام الذين قاتلوا من أربعين سنة، ولا أقلل من شأن مئات الآلاف من المجندين القادمين من كل بيت فى مصر، إنما من حقى وحق كل من رأى هذه الأفعال أن يتساءل، كيف صدر هذا عن جنودنا؟ هل المسألة محصورة فى فرع ما من فروع القوات المسلحة دون غيره؟ هل المسؤول عنها ضابط بعينه دون غيره من الضباط؟ إن المحاكمات العسكرية التى عرض عليها علاء عبد الفتاح إنما خلقت لكى يحاكم أمامها هؤلاء الجنود المذكورون وضباطهم واحدا واحدا.

●●●

لقد أصيب الجميع فى مصر بالصدمة من مثل هذه المناظر، كل جيش فى العالم يحتاج أن يترك انطباعا لدى الناس فى الداخل والخارج أنه قوى، مثل هذا الانطباع من ضرورات الردع الاستراتيجى ومن أعمدة سياسات الدفاع فى العالم، فحين يظهر جيش ما بمظهر الضعيف فإنه يخسر منطق وجوده كرادع للأعداء وحارس لأهله. وما فعله هؤلاء الجنود والضباط المسؤولون عنهم هو أنهم أظهروا الجيش بمظهر الضعف، فالبذاءة ضعف، والاعتداء على النساء العزلاوات ضعف، أما التبول أمام الكاميرات على رؤوس الناس فلا أجد له وصفا.

ويحسن الحاكمون صنعا أن لا يغتروا بالهدوء النسبى للبلاد، وأنها لم تنتفض هذه الأيام لأحداث القصر العينى كما انتفضت لأحداث محمد محمود، فهو هدوء لن يعجب الحاكمين معناه. لقد انفجرت أزمة شارع محمد محمود قبل الانتخابات، فنادى الناس برحيل المجلس العسكرى من الحكم، وما منعهم من النجاح إلا تخاذل مرشحى الرئاسة والقوى السياسية وتأخرهم عن تشكيل مجلس قيادة يخيم فى الميدان ويحمى الناس فيحمونه. ثم بدأت الانتخابات، فأصبح أمام الشعب المصرى طريقان لتغيير نظام الحكم، الأول هو الميدان والثانى هو الصندوق، ولما كان الثانى آمن من الأول، ولما كان الأول مرتبكا بسبب ما ذكرناه من جبن القادة وتخاذلهم، فقد اختار الناس الصندوق. هذا يعنى أن الناس إنما اختاروا الانتخابات ليتخلصوا من الحكم الحالى لا ليبقوا عليه، وهذا يعنى أن على الناجحين فى الانتخابات أن يطالبوا بحقوق الناس، وأولها أن تنتقل كافة صلاحيات رئيس الجمهورية وعلى رأسها الصلاحيات الأمنية والدفاعية إليهم. والناس صابرون على فقء العيون وقتل الأولاد وهتك الأعراض أملا فى مجلس الشعب أن يأخذ لهم حقهم، فإن خذلهم ممثلوهم، فالله وحده يعلم أى غضب سيتولد عن خيبة أملهم.

إن هذه الأحداث باشتعالها وهدوئها كانت إنذارا للجميع، لمجلس الشعب ومجلس الحاكمين وللناس…من له عينان فلينظر ومن له أذنان فليسمع.