samedi 25 février 2012

مصر.. الحدّ الفاصل بين الفوضى وما تبقى من نظام!

134

دقيقة حِـداد على أرواح شهداء بورسعيد.. أعلام مصر منكسة وحِـداد عام لمدة ثلاثة أيام.. و"التراس أهلاوي" يهاجم وزارة الداخلية بضراوة.. والمتظاهرون يحيطون بالوزارة من كل الجهات..

.. إصابة 54 جنديا من قوات الأمن، المدافعين عن وزراتهم. بدأ استخدام الخرطوش، دون معرفة المصدر.. مناشدات للمتظاهرين أن يبتعِـدوا عن الوزارة ولا استجابة.. لاعبو الأهلي: "رأينا الموت بأعيُـننا، يذهب الدوري للجحيم، إن كان سيؤدي إلى موت الأبناء والجمهور واللاعبين"..
هذه عيِّـنة من عناوين الصحف المصرية ومواقع الأخبار، بعد ساعات قليلة من المذبحة التي شهدتها مدينة بورسعيد مساء الأربعاء 1 فبراير 2012 في أعقاب مباراة لكرة القدم بين فريقي الأهلي والمصري، والتي فاز فيها الأخير بثلاثة أهداف مقابل هدف، لكن الفوز لم يكن يقنع أحدا من الجماهير البورسعيدية، لكي تحتفل بالفوز الكبير لفريقها المجتهد وأن تمتنع عن ممارسة شهوة الانتقام والعقاب الجماعي للجماهير الأهلاوية الزائرة.
كان اندفاع الجماهير بكثافة غير مسبوقة في ثوانٍ معدودة إلى الملعب، راكضين وراء لاعبي الأهلي وجهاز التدريب وملاحقتهم حتى غرف الملابس، مثيرا وغريبا بكل المقاييس، وكأن الكل قد اتفق على هدف واحد، وهو النيل القاسي من اللاعبين المنافسين ومشجِّـعيهم بأي صورة كانت.
مَـن شاهد الكَـر والفَـر في حينه، يُـدرك على الفور أن الأمر لم يحدث صدفة، بل كان نتيجة تخطيط مُـسبق وتعمد، وهما عُـنصران يعنِـيان أننا أمام جريمة متكاملة الأركان، تستدعي أقسى درجات العقاب.

التخطيط والتعمد

التخطيط والتعمُّـد والفاعلين ومَـن وراءهم، في عهدة النيابة العامة، التي تقوم بالتحقيق وجمع المعلومات، وصولا إلى تحديد المسؤوليات قبل التوجُّـه إلى المحكمة لإصدار حُـكمها العادل. بيْـد أن فداحة الأمر، تجعل الحدث أكبر كثيرا من مجرّد مواجهة بين مشجعي فريقين متنافسيْـن، ويسود بينهما نوع من الخصام الشديد أحيانا.
فالحالة العامة التي تمُـر بها مصر الآن أو ما يمكن وصفه بالسياق السياسي والأمني العام، والمزايدات التي احترفها البعض من قِـوى الشباب ومناصريهم وآخرين من الإعلاميين المحسوبين على النظام السابق، ضدّ المجلس العسكري ووزارة الداخلية تحديدا ونواب في مجلس الشعب، يعتبرون أنفسهم نوابا للثورة، والثوار ويطالبون بتسليم السلطة فورا إلى مدنيين غيْـر محدّدين، وناشطون سياسيون كل همّـهم هو استعادة أجواء ثورة 25 يناير 2011 وإسقاط مؤسسات الدولة والتشكيك في شرعية مجلس الشعب المُـنتخب، بعد أن فشلوا فشلا ذريعا في تنظيم أنفسهم حزبيا، والمنافسة الحقيقية على عضوية البرلمان.
فضلا عن حالة التهييج الإعلامي والسياسي التي يمارسها البعض ضد حزب الحرية والعدالة، صاحب الأكثرية الأولى في البرلمان المُـنتخَـب واعتباره "سارقا للثورة" و"متحالِـفا مع الشيطان الأكبر"، أي المجلس العسكري لإجهاض الثورة، والمواجهات التي جرت بين شباب الإخوان وشباب الإئتلافات الشبابية يوم 28 يناير الماضي بميدان التحرير، وبُـطء القرارات الحاسمة من المجلس العسكري إزاء الأحداث الجسام، تُـمثل جميعها حالة المناخ العام الذي يفسِّـر مثل هذه المذبحة الشنيعة التي راح ضحيتها 72 شهيدا في عمر الزهور ومئات من المصابين، مرشّـحين للزيادة، بعد المواجهات التي يشهدها محيط وزارة الداخلية في قلب القاهرة ليلة الخميس 2 فبراير.

المحاسبة المنقوصة

بَـشاعة المذبحة تستدعي الحِـكمة في القول والحِـكمة في القرار، وصولا إلى تشخيصٍ دقيق وصياغة خُـطة عمل، لمنع الوقوع في مثل هذه المواجهات غيْـر المبرّرة ونتائجها المأساوية، السوداء مرة أخرى، غير أن لغة العاطفة والمزايدة السياسية وتوجيه السِّـهام في كل اتجاه، غلبت على بعض من يُـفتَـرض أنهم يمثلون المصلحة العامة بتكليف من الشعب.
وفي جلسة البرلمان الطارئة التي خُـصِّـصت لمناقشة المذبحة، طرحت الآراء والتحليلات، على نحْـوٍ ركَّـز على جانب جزئي من الحدث، وليس سياقه العام، فجاءت أغلب الأطروحات خالِـية من المسؤولية نحْـو النظام الجديد، المُـفتَـرض أن البرلمان المُـنتخَـب هو طليعته، وسادها روح الانتقام من الحكومة والداخلية والمجلس العسكري والمطالب غير الواقعية، اللهُـم إلا قراريْـن انتهت إليهما المناقشات بدفع من رئيس المجلس وهما: تشكيل لجنة تقصّـي الحقائق على أن تقدّم تقريرها في نهاية الأسبوع، ليحدد المسؤوليات الجنائية والسياسية والمعنوية، وتوجيه الاتهام بالتقصير لوزير الداخلية، وبالتالي، تحميله مسؤولية قانونية ومعنوية في آن واحد.
الحكومة من جانبها اتّخذت قرارات سريعة، كإقالة محافظ المدينة ونقل مدير أمنها ومدير المباحث فيها وإحالتهما إلى التحقيق، ووقف الدوري العام وحلّ اتحاد الكرة وإحالته للتحقيق.
ولكن يظل العنصر الغائب والذي كان جزءا من الأحداث، وهو روابط المشجعين للأندية ومسؤولي الأندية، التي يجزلون العطاء لهذه الروابط، فلا توجد أدنى محاسبة لهؤلاء ولا أي قرار بحلّ هذه الروابط، إن كانت مسجّـلة، ومنعها وتجريمها، إن كانت عُـرفية بحُـكم الأمر الواقع.
هذه الروابط التي احترفت مؤخّـرا الفعل السياسي من زاوية التعامل مع وزارة الداخلية من منظور الثأر والانتقام، سواء في الملاعب أو في الميادين، كما أنها المسؤولة عن حالة الشحن الشعبي ضد الفِـرق المُـنافسة ومشجِّـعيها، وهي المتورطة مباشرة في حوادث تخريب الملاعب وإشعال النيران أثناء اللعب، وتتفنّـن في الحشد والتظاهر بشعارات حركة 6 أبريل، المناهضة لكل الخطوات المتعلقة بنقل السلطة وتسعى جاهدة إلى قلب الطاولة على مصر والمصريين، بحجّـة أنهم الأولى بقيادة الثورة والأولى بالقضاء على كل من كانت له صلة بالنظام القديم.

التشكيك في كل شيء

المناخ السائد في مصر الآن، يقوم على التشكيك في كل شيء والمزايدة على كل شيء وتهييج مشاعر الناس ضد الجيش المصري وضد قياداته والتفنن في استعداء المواطنين على الجنود وتصويرهم بأنهم أعداء يجِـب قتالهم بلا رحمة، وقلب الحقائق بصورة متعمّـدة. فالضابط الذي يمارس واجبه في الدفاع عن وحدته أو موقعه، يصفه الإعلام المُوجّـه بأنه قاتل يجب القصاص منه فورا. والناشط السياسي الذي يسب الجنود والجيش والقيادات ويطلق ألفاظا بذيئة، يعف عنها اللسان والقلم معا، يُعدّ بطلا ثوريا ويُحتفى به إعلاميا ويصبح فوق المُـساءلة.
والخطأ الذي يقع فيه فرد من وزارة الداخلية أو الجيش، يُسحب على المؤسسة بكاملها، ويهدر دم كلّ من فيها. والشعار الغالب لدى الإئتلافات الشبابية، بما فيها روابط المشجّعين الرياضيين "الالتراس" Ultras، الذين تحالفوا مع ائتلافات شبابية سياسية، هو "يسقط حُـكم العسكر" والتسليم الفوري للسلطة قبل الدستور وقبل أن يتم تحديد مسؤوليات الرئيس الجديد، وحتى قبل تأمين البلد وإعداد مؤسسات أمنية قادِرة على فرض هيْـبة الدولة في إطار القانون. وكأن الجميع تحالف على إسقاط الدولة المصرية، ولتذهب الديمقراطية واختيارات الناخبين إلى الجحيم.
وفي هذا السياق المقلوب، يأتي مَـن يقول إفكا، بأن الجيش "هو الذي صنع مذبحة بورسعيد، لأنه يريد أن يبقى في السلطة"، وفات على مردِّدي هذا التفسير المَـرضي أن إطلاق حالة الفوضى تعني كسر إرادة النظام العام وإضاعة هيْـبة الدولة. فمَـن هذا الذي يتطلع إلى سلطة في دولة منهارة؟ هؤلاء لا يحترمون عقول أنفسهم ولا عقول الناس.

نفاق سياسي ومزايدات

النفاق السياسي والمزايدات اللَّـفظية، أضحت برأي المراقبين السِّـمة الغالبة في إعلام عام وخاص فقَـدَ بوْصلته ولم يعُـد يهتم حسبما يبدو بمبدإ المسؤولية تجاه الوطن، بل صار البعض من الإعلاميين والمتحدِّثين من صِـنف واحد، بائع للوطن وأمنه واستقراره "من أجل حفنة إعلانات"، مثلما يتهم كثيرون.
يصاحب ذلك جملة من الأحداث الأمنية المتزامِـنة التي لم تشهدها مصر من قبْـل، كخطف الأطفال وطلب الفِـدية من الأهل، وقطع الطُّـرق من بعض المحتجِّـين على موقف أو قرار لوزير أو لمحافظ أو المطالبين بما يعتبرونه حقوقا لابد من تحقيقها فورا، ,الهجوم على أفْـرُع البنوك بالأسلحة وسرقة ما بها من أرصِـدة، ومهاجمة عربات نقل الأموال التابعة لشركات صرافة، والهجوم المنظم والمحترف على أقسام البوليس، بُـغية تحرير أحد المتورِّطين في جريمة ما، ووقف العمل بهاويس في جنوب مصر ومنع السفن السياحية من الحركة ومحاصرة ما بها من سائحين عدة أيام، حتى يحقق المحتجّون طلبهم في التعيين الفوري بإحدى الوزارات، مما دفع شركات السياحة إلى إلغاء حجوزاتها الصيفية.
مشاهد عدة من الجرائم وأساليب الإحتجاج والضغط على الحكومة، لم تعتدها مصر من قبل، والمفارقة أن تحدث هذه الجرائم في وقت بدأت فيه وزارة الداخلية في ظل وزيرها الجديد محمد إبراهيم، تستعيد بعضا من نشاطها في ضبط الهاربين من السجون واستعادة الأسلحة المسروقة من مراكز الشرطة قبل عام، والنزول في الشارع من خلال دوريات أمنية، للسيطرة على مظاهر الإنفِـلات الامني والسلوكي التي أصبحت معتادة وبكثرة.
هذه المفارقة تعني أحد أمرين، إما تحالف المتضرِّرين من صحوة الشرطة وصحوة وزيرها الجديد، بهدف استمرار حالة الإنفلات الأمني على حالها ومنع الشرطة من أن تستعيد دورها الطبيعي، ومن ثمّ تتفاقم حالة الفوضى في البلاد ويحدُث السقوط المرغوب للدولة، وإما المزيد من تراجع الأداء المؤسسي لقوى الأمن. والأرجُـح هو، الأمريْـن معا.
غير أن الأمانة تقتضى الإشارة إلى أن عملية إعادة هيكلة وزارة الداخلية كدور وفلسفة عمل وتشريع وإعداد قيادات تُـراعي حقوق الإنسان وتعمل في ظل القانون ولا تتجاوزه، والتي تُـعد مطلبا رئيسيا للثورة والثوار الحقيقيين غيْـر المزيَّـفين، لا يمكن أن تحدث، وهناك حالة استنفار أمني لمواجهة الأحداث الجسام المتكرِّرة بين أسبوع وآخر، تصاحبها حالة من هدْم معنَـويات الشرطة والتركيز اللاّفت للنظر على ما يفرق بين الشرطة والشعب، وليس ما يجمع بينهما في إطار القانون والدستور.
تبدو مصر الآن وكأنها على حافة جرف أو تتجه بقوة إلى خط رفيع يفصل بين النظام النسبي وبين الفوضى العارمة، وهنا وجَـب التحذير، فإن فلت الأمر سيضيع كل شيء!

د. حسن أبوطالب - القاهرة- swissinfo.ch

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire