samedi 25 février 2012

سوريا تشهد انقلابا في "طبيعة الصّراع"

132

ثمّـة شِـبه إجماع الآن بين المحلِّـلين العرب والغربيين، على أن النظام السوري فقَـد السيطرة على مناطق شاسِـعة من البلاد، على رغم الحمَـلات العسكرية الواسعة التي يشنّها منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، في إطار ما بات يُعرف في أدبيات النظام بـ "الإنتقال من الحلّ الأمني إلى الحسم العسكري".

السّبب الرئيسي لفقدان السيْـطرة، لا يعود إلى اختلال موازنين القِـوى العسكرية بين الحكّام وبين المحكومين المسلّحين، سواء أكانوا "الجيش السوري الحُر" أو الفصائل المدنية المسلحة الأخرى. فمثل هذا التوازن، غيْـر موجود قط، حتى الآن على الأقل، حيث النظام لا يزال يتمتّع بتفوّق عسكري، برّي وجوي وبحري، كاسح.
السبب، هو تغيّر طبيعة هذه السيطرة.
ففي السابق، وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية من عُـمر النظام الحالي، كان هذا الأخير يُمسِـك بكل مفاصل السلطة السياسية ويُـهيمن بشكل مُـطلَـق على كل منافذ المجتمع المدني عبْـر خمسة عشر (15) جهاز أمني – استخباراتي، نجح في التَّـغلْـغل في كلّ مناحي الحياة السورية، فكانوا في كلّ بيت وشارع ومؤسسة وشركة وجمعية، وبالطبع في كل ثكَـنة.
هذه الهيمنة الأمنية المُـطلقة تهاوَت في اللّحظة التي وجد فيها النظام نفسه مُـضطراً إلى الإعتماد على الجيش، لاستعادة السيطرة بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من اندِلاع الانتفاضة. فآلاف الدبّـابات والمُـدرّعات، كانت قادرة على احتلال المواقع التي وقعت في قبضة المتظاهرين والثوار، من الزبداني في ضواحي دمشق إلى درعا في الجنوب (والآن حـمص في الوسط)، إلا أنها غيْـر قادرة بالطبع على فرْض استراتيجية الخوْف، التي كانت أجهزة الأمن متشعّـبة الرؤوس تنفِّـذها بنجاح واضح طيلة عقود عدّة. الدبّـابة تستطيع السيطرة بالنيران على شارع أو حي، لكنها لا تستطيع الدخول إلى المنازل والبيوت والمقاهي.
هذا التطوّر ليس تفصيلاً بسيطا البتّـة، بل هو سيُثبت، كما سنرى بعد قليل، أنه تحَـوُّلٌ تاريخي من الطِّـراز الأول، في مجال طبيعة الصراع السياسي في سوريا: من صِـراع بين أجنحة عسكرية - أمنية هيْـمنت على الحياة السياسية السورية منذ الإستقلال عن فرنسا عام 1946 وحتى الآن، إلى صراع بين العسكر والمدنيين.
لكي نوضِّـح هذه النقطة، قد يكون من المُـفيد القيام باستعراض سريع لصفحات من تاريخ سوريا الحديث، من حيث العلاقة بين المؤسسة العسكرية - الأمنية وبين المجتمع المدني.

الجيش والأقليات

ثمّـة انطباع شائع يميل إلى اتِّـهام النظام السوري الحالي بأنه المسؤول عن الخلَل الفادِح في العلاقة بين الجسميْـن، العسكري والسياسي.
لكن وقائع التاريخ، لا تدعم هذا الرأي. فالدولة السورية الحديثة منذ استقلالها في أبريل 1946، وبالتحديد بعد نكبة فلسطين، تحوّلت إلى مسرح مفتوح للصِّـراعات العسكرية – العسكرية، التي همّـشت إلى حدٍّ بعيد المجتمعيْـن، السياسي والمدني، وصادرت إلى حدٍّ بعيد أيضاً كلّ أو مُـعظم أوجُـه الحياة السياسية.
فغَـداة حرب فلسطين، قام حسني الزعيم في مارس 1949 بأول انقلاب عسكري (مُدشّـِناً بذلك سلسلة انقلابات عسكرية لاحِقة في كل أرجاء المنطقة العربية)، سُـرعان ما لحق به انقلاب ثانٍ بقيادة سامي الحناوي، ثم ثالث بعد سَـنة واحدة بقيادة أديب الشيشكلي.
وعلى رغم إطاحة الشيشكلي في انقلاب عام 1954، إلا أن الحياة السياسية، التعدّدية والبرلمانية، كانت قد أُفْـرِغت من أيّ مضمون، بسبب إشراف فصائل الجيش والأمن على كل محاوِرها، وأيضاً بسبب اللاإستقرار، الذي خلقته الصِّـراعات المتواصلة بين كِبار ضباط النخبة العسكرية.
فقد وقع عدد كبير من الإنقلابات ومحاولات الانقلاب في الفترة بين 1949 و1971، وتغيّـرت 20 حكومة في الفترة بين 1946 و1956، وتَـم فرض حالة الطوارئ منذ عام 1963 وحتى تعليقها (شكلياً) أواخر عام 2011.
المُـلفت هنا، هو الدور الكبير الذي لعِـبته النخب العسكرية الآتية من رحِـم الأقليات في هذه الصِّـراعات المتواصلة على السلطة. فالزعيم والحناوي والشيشكلي، يعودون جميعاً بجذورهم إلى الأقلية الكُـردية السُـنية، التي لا تشكل سوى نحو 9% من إجمالي سكان سوريا.
وفي عام 1949، صدر تقرير رسمي عسكري سوري، أشار إلى "كل القيادات التي تقِـف على رأس الوحدات العامة، تعود إلى أصول أقلاوية. وهذه القيادات، تساعد الأقارب وأبناء الطائفة على الإنخِـراط في صفوف الجيش".
البعض يُعيد هذا المنحى إلى الإنتِـداب الفرنسي، الذي شجّع بوضوح أبناء الأقليات العلوية والدرزية والمسيحية والإسماعيلية، على دخول "القوات الخاصة للشرق"، التي شكّـلتها قوات الاحتلال. وهكذا، بدأت منذ ذلك الوقت رحلة الأقليات، الذين جاء الكثير منهم من مناطق ريفية مُفقرة ومُضطَـهدة، مع العمل السياسي عبْـر السلك العسكري.
هذا التطور وصل إلى ذِروته مع صعود نجم حزب البعث في السياسات السورية. ففي عام 1959 على سبيل المثال، تألّـفت "اللجنة العسكرية" في الحزب (أي القيادة العسكرية) من 15 ضابطاً، بينهم 3 علويين (حافظ الأسد، صلاح جديد، ومحمد عمران) وإسماعيليان (عبد الكريم الجندي وأحمد المير) ودرزيان من جبل العرب (سليم حاطوم وحمد عبيد) وستة سُـنّة من حوران وحلب واللاذقية. وكل هؤلاء الضباط جاؤوا من أصول ريفية وعائلات فقيرة، ما عدا صلاح جديد وعبد الكريم الجندي.
بعد الإنقلاب البعثي في 8 مارس 1963، نشب صراع حادّ على السلطة بين ضبّاط الأقليات الدرزية والعلوية والإسماعيلية. وحين حسم العلويون الصِّـراع لمَـصلحتهم وأبعدوا الضباط الدروز والإسماعيليين، انفجَـر الصراع في صفوفهم بين حافظ الأسد وصلاح جديد.
ومع نجاح الأسد في إطاحة جديد، من خلال فرض هيمنة الجيش الكاملة على حزب البعث، الذي كان منحازاً إلى جديد، وتحوّله إلى أول علوي يتبوَّأ منصِـب الرئاسة في سوريا، بدأت مسيرة طويلة، كانت سِـمتها الرئيسية، ضبط الصراعات داخل المؤسسة العسكرية - الأمنية، وتحويل هذه المؤسسة، التي احتل فيها العلويون مُـعظم المواقع النافذة والمؤثرة (على رغم غلبة عديد من سُـنّة الأرياف في سلك الجنود والمجندين وصغار الضباط)، إلى جهاز بيروقراطي ضخم، لإحكام السيطرة على المجتمع المدني.
ومنذ ذلك الحين، تحوّلت هذه المؤسسة إلى شِـبه طبقة اقتصادية، وما لبثت أن انفصلت عن جذورها الريفية وأبرمت حِـلفاً مع تجار المدن السنّة، تمت فيه (في البداية على الأقل) مقايَـضتهم بالمنافع الإقتصادية مقابِل الرُّضوخ الأمني، فكانت الحصيلة تصحير كل الحياة السياسية وإطباق كامل على كافة مقوِّمات المجتمع المدني.

تحوُّل تاريخي

هذه المُـعطيات، ربّما توضِّـح أن الخلَل في العلاقة بين العسكر والمدنيين، وعلى رغم أنها بلغت ذِروتها مع حُكم الرئيس حافظ الأسد، إلا أنها لم تبدأ معه، بل كانت سِـمة "تأسيسية"، رافقت قيام الدولة السورية الحديثة.
وهذه الحقيقة بالتحديد، هي التي تُـعطي الانتفاضة السورية الرّاهنة بُـعدها التاريخي العميق، الذي أشرنا إليه في البداية. فهذه قد تكون المرّة الأولى التي ينتفِـض فيها معظم المجتمع المدني السوري ضدّ النُّـخب العسكرية الحاكمة، مسجِّـلاً بذلك أول اهتزاز كبير في موازين القِـوى بين الطرفيْـن.
صحيح أن سوريا شهِـدت في السابق طيلة العقود الستّـة الماضية، انتفاضات شعبية ومطلبية، إلا أن هذه لم تتَّـسم بالشمولية ولم تؤثِّـر على طبيعة الصِّـراع على السلطة في البلاد. هذا في حين أن الانتفاضة الحالية اخترقت مُـعظم بُـنى المجتمع السوري، وهي تطرح شعارات تصبّ مباشرة ضد هيمنة النّخب العسكرية - الأمنية على مقدرات البلاد: الدولة المدنية والديمقراطية وحكم القانون والحرية.. إلخ.
حقيقة تغيّـر طبيعة الصراع هذه، ستبقى ماثلة حتى لو انحدرت سوريا إلى حرب أهلية طائفية، في حال بقيت معظم النخب العلوية متماسِـكة وداعمة للنظام الحالي. فالنُّـخب العسكرية العلوية، لن يكون بمقدورها بعدَ الآن مواصلة سيْطرتها الأمنية السابقة على البلاد، كما أنها باتت تفتقِـد بشكل خطير إلى الأدوات الأيديولوجية، التي مكّـنتها في السابق من دمْج مفهومي الهيمنة (بالمعنى الغرامشي) والسيطرة (بالمعنى التوتاليتاري): القومية العربية العلمانية، حرب أكتوبر 1973 (التي منحت النظام شرعية غير مسبوقة) وأولوية ما هو عروبي وحدوي، على ما هو وطني محلّي أو مطلبي.
كل هذه الأدوات أصبحت هشّة أو حتى لا أثَـر لها. فالقومية العربية انحسرت في سوريا وكل المنطقة العربية، بعد أن تلقَّـت الضربة القاضية في هزيمة 1967 وبعد أن تعثّـرت كل وعود الوِحدة والحرية والاشتراكية. وحرب أكتوبر تكاد تُـصبح حدثاً تاريخياً عادياً، خاصة وأن الجولان لا يزال محتلاً منذ 45 عاماً، ما عَـنى أن هذه "الحرب التحريرية" لم تكُـن في الواقع تحريرية تماما. وأولويات الجيل السوري الجديد، كما أولويات كل أجيال الربيع العربي، لم تعُـد الوِحدة والاشتراكية، بل الخُبز والكرامة واحترام حقوق الإنسان.
لكل هذه الاعتبارات، جوهر الصراع في سوريا الذي قلبته الانتفاضة الرّاهنة رأساً على عقب، سيبقى بين العسكر والمدنيين، حتى لو تلوّن بسِمات طائفية ومذهبية أو حتى لو توسّعت وتيرة الانشقاق في صفوف الجيش السوري.
فالحدث التاريخي الآن في سوريا، بات في يد المدنيين أو الشعب للمرّة الأولى منذ 1949. وما لم يتأقلم العسكر بكل أشطاره (أي في الموالاة كما في المعارضة) مع هذه الحقيقة، فإنهم سيحفرون بأيديهم قبْر الدولة السورية الحديثة (ومعها الكِيان الوطني السوري) أو على الأقل سيحوِّلونها إلى "دولة فاشلة".

سعد محيو - بيروت- swissinfo.ch

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire